مقالات

العقل الحر وتدابير المؤامرة

العقل الحر وتدابير المؤامرة

د. نادية هناوي

يعد نعوم تشومسكي الصوت الأكثر مساندة للقضية الفلسطينية في الغرب، والعقل الأشد حنقا وفضحا ونقدا للسياسة الأمريكية والصهيونية العالمية. وكثيرة هي المواضع التي فيها كشف تشومسكي دجل الصهاينة وأحابيل لوبيها في التآمر على الحق الفلسطيني، وهذا ما يجعل من كتبه مثل «ماذا يريد العم سام» و«طموحات امبريالية» و«أوهام الشرق الأوسط» مصادر إدانة تاريخية وفكرية للنظام العالمي الجديد. وهو لا ينفك يؤكد الحقيقة القائلة أن الصهيونية هي ربيبة الولايات المتحدة، وأن الأولى ما أن تطلب شيئا إلا وتنفذه الأخرى صاغرة.
وأسرار الربيبة والمربية مثيرة وكثيرة، ولقد تتبع تشومسكي بعضا منها، تماما كما تتبعها إدوارد سعيد في كتاباته. وبجانب كشف الأسرار هناك أيضا إشارات كثيرة بثها تشومسكي في كتبه، تتعلق بمخططات خاصة رسمها الصهاينة في دهاليزهم السرية مثل «مخطط ألون» ودُشن بشكل غير رسمي عام 1968 من قبل حزبي الليكود والعمل، وُطبّق على الفلسطينيين خلال أحداث انتفاضة الأقصى في تموز (يوليو) 2000 وثمة «مخطط شارون» وآخر اسمه «مخططات حكومة العمل».
ويطول بنا المقام ونحن نبحث في كتب تشومسكي عن الأسرار والإشارات، ليس لأنها جديدة ولم يسبق أن ذكرها أحد قبله، بل لأن فيها الدليل الذي لا شك فيه. فتشومسكي شخصية لها ثقلها المعرفي كما لها صلتها المباشرة بالواقع الجيوبوليتيكي والديموغرافي المعيش في الغرب.
إنّ هذا كله يضع أمامنا صورة لحجم المؤامرة المحوكة ضد المنطقة العربية التي صارت عبارة (الشرق الأوسط) مسمى لها، وباستمرار تداولها تغيب مفردة (العربية) وتتميع معها الروابط التي تدل عليها كالهوية والتاريخ والقومية واللغة. والحديث عن المؤامرة هو بالطبع حديث عن مخططات معدة ومرسومة، وما رفض وجود المؤامرة سوى تهوين لفعل العقل. ولقد قالت العرب قديما «سوء الظن من حسن الفطن».
من المؤسف حقا أن نجد في أوساط المثقفين فضلا عن المتعلمين الأوروبيين من يرفض وجود المؤامرة أو يعدها مجرد نظرية ليس إلا. وثمة من يتهكم على من يؤمن بها، مفترضا أن أحوال البلاد وشؤون العباد في المنطقة العربية هي رهن بمتغيرات تاريخية وآنية تصنعها عوامل عدة، وكأن لا قصدية شيطانية ولا مخططات ومكائد دبرت بالمكر والخديعة، ولا تدابير عدوانية وغير إنسانية ولا أخلاقية وأخرى احترازية وقائية موضوعة قبل عشرات العقود. وينفذ منها ما يلائم الظروف ويماشي واقع الحال. وهنا يتبادر السؤال الآتي: كيف لا تكون مؤامرة محوكة، ومنطقتنا منجم من مناجم العالم المعاصر، وملاذ استراتيجي يعز وجوده وينبغي بلوغه من لدن من يريد الهيمنة على العالم الواقع تحت (وباء الإرهاب الدولي) كما يقول تشومسكي؟
إن أهمية الايمان بوجود المؤامرة ليس القصد منه مواجهتها بالمثل، فذلك غير مستطاع في حدود ما هو متوفر من وعي، وما هو متحقق من إمكانيات، وإنما القصد هو النقد المتهكم وتحشيد الرأي من أجل تشنيع فعل التآمر كي لا ينطلي على العالم. ولقد أدت وسائل التواصل الاجتماعي في الأشهر العشرة المنصرمة من معارك طوفان الأقصى دورا محمودا في هذا المجال حتى تغير الرأي العام العالمي، وبات يقدر حجم المؤامرة التي يدفع ثمنها الآن أهلنا في غزة والبلدات والضواحي المحيطة بها.
إن محاولة اقناعنا بمحو نظرية المؤامرة من أذهاننا هو أكبر مؤامرة، وما نتوسمه في الكتاب والمثقفين العرب الواعين هو أن ينفضوا عنهم الاطمئنان والدعة والارتكان إلى الجزئيات التي تضللهم عن رؤية الكليات. وليس خلاف ذلك سوى الوقوع في شرك الأكاذيب الحقيقية، فلا هم يأخذون حقا ولا هم يفندون باطلا فيما يناقشون فيه أو يبرهنون عليه. وخير مثال على ذلك كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» الكتاب الذي اُختلف فيه، فتعددت وجهات نظر المثقفين العرب حوله، وانقسموا بين مصدقين ومكذبين. وكنا في مقالة سابقة قد عرضنا وجهة النظر التي يمثلها الكاتب محمد خليفة التونسي وفحواها أن البروتوكولات مؤامرة خطيرة حيكت خيوطها في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897. ونعرض هنا وجهة النظر الأخرى ويمثلها كثيرون، وفحواها أن البروتوكولات ليست سرية، بل هي خرافة صنعتها السلفيات والأصوليات، وهدفها خلع هالة من الأهمية والرهبة على المشروعات الصهيونية عامة.
وإذا كانت وجهة النظر الأولى قد أحالت المؤامرة إلى الصهيونية العالمية، فإن وجهة النظر الأخرى جعلت المؤامرة فعلا ذاتيا عربيا غير مقصود. وما بين وجهتي النظر لا تكون ثمة مؤامرة مؤكدة، وإنما هي ألاعيب السياسة. وهذا بحد ذاته تسفيه للعقل الحر الذي مثله تشومسكي خير تمثيل وهو الذي لم يقطن بلاد العرب لكنه يقدر حق التقدير لمَ تتنازعها الصراعات منذ أن كان الاستعمار استيطانيا وحشيا وإلى أن صار ثقافيا ناعما.
وليس صعبا امتلاك العقل الحر إن كان الوازع نحو المعرفة حاكما على الذات، فتسهل من ثم مهمة فرز الحقائق عن الأكاذيب ومعرفة الأسرار من خلال النبش في الأخبار والمدونات التاريخية وعلى ذات الطريقة التي اتبعها إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي وغيرهما من أصحاب العقول الحرة.
والدليل على أهمية الوازع نحو المعرفة في امتلاك العقل الحر، هو النظر في الاختلاف نفسه، هل يكون مقصودا لأجل معرفة حقيقة البروتوكولات أو غير مقصود لأن البروتوكولات مزيفة؟ وما بين الحقيقة والتزييف يكون مؤكدا وجود أساس لهذه البروتوكولات وكما يقال في المثل الدارج (ما في دخان من دون نار) أي انه مهما كان المشاع أكذوبة فلابد له من أساس صحيح، هذا إن لم يكن المشاع فعلا حاصلا وحقيقة قارة. ولقد بحث محمد خليفة التونسي عن أساس كتاب البروتوكولات بعد أن ترجمه في أواخر أربعينيات القرن الماضي، فتوصل إلى أن البرتوكولات مؤامرة صهيونية خطيرة. وفي عام 1967 نشر الباحث نجاح نويهض دراسات موسعة توزعت بين عدة مجلدات حول كتاب البروتوكولات، وقارب بينها وبين نصوص دينية وتاريخية، فبدأ بالتوراة وقصة جشم العربي مع حليفيه سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني وأعمال حزقيال وعزرا ونحميا ودانيال ثم انتقل إلى أيام السبي البابلي الأولى (التي جعلت بفعل الزمن تطرد وتنمو وتتحول إلى ما يسمى بالتلمود وهنا كان ملتقى الينابيع ومنه استمدت البروتوكولات روحها وهدفها وغايتها) وبحث أيضا في منشأ السنهدرين قبيل العهد المسيحي ومنشأ التلمود وقصة استر مردخاي وقوله: «إن العرب الأولين هم أول من قاتل بني إسرائيل زمن موسى وأن هامان الاجاجي العماليقي حاول تصفية اليهود قبل خمسة وعشرين قرنا» وانتهى نويهض إلى أن البروتوكولات مؤامرة صهيونية مدبرة.
ولم يقف أمر البحث في كتاب البروتوكولات عند هذا الحد، بل استمر إلى العقد الأول من القرن الحالي حين نشر منصور عبد الحكيم كتابا أكد فيه أن بروتوكولات حكماء صهيون مخططات ماسونية للسيطرة على العالم وأنها حقيقة يشهد لها الواقع المعاصر، وهي مسودة العمل الصهيوني أملاها على جمع من المجتمعين كاتبها آدم وايزهاوبت الذي استأجره المرابون عام 1770 لمراجعة وإعادة تنظيم البروتوكولات القديمة على أسس حديثة. واستمر المخطط المرسوم مع قيام الحرب العالمية الثانية فتمكنت من إقامة دولة إسرائيل في فلسطين.
وفي الطرف المقابل نجد من سفه وجود أي أساس لبروتوكولات حكماء بني صهيون لأنها مزيفة وبروايات عدة؛ منها أن كاتبها هو العالم الروسي سيرغي نيلوس الذي استعادها من كتاب «حوار في الجحيم بين مكيافيللي ومونتسكيو» 1864 للفرنسي موريس جول، وأن هذا الكتاب بدوره مستند في الأصل إلى كتاب «حوارات» 1850 لجون فينيدي أو أن كاتب البروتوكولات هو اشرغنزبرغ المعروف باسم» أحدها عام» أو أنها مجرد دعاية إيديولوجية قائمة على فكرة معاداة السامية وكراهية اليهود، وأن أي ردة فعل حولها إنما تصب في صالح الصهيونية وتؤكد تفوقهم على العالم، ولكن «معاداة السامية» مصطلح اجترحه الألماني فيلهلم مار عام 1873 فضلا عن أن السامية ليست مخصوصة بلغة أو قومية واحدة مثلما أن مفردة إسرائيل لا تعني اليهود جميعا بل إن مفردة غوييم goyim وتعني بالعبرية من هم ليسوا من إسرائيل، هي نفسها تدل على كراهية العالم.
*كاتبة من العراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب