«سبع حركات للقسوة» رواية المصري مصطفى البلكي: الحرب الدامية ومصائر الأفراد المتقاطعة
«سبع حركات للقسوة» رواية المصري مصطفى البلكي: الحرب الدامية ومصائر الأفراد المتقاطعة
صابر رشدي
يغزل الكاتب الروائي المصري مصطفى البلكي سردية هادئة عن الحرب، وعن القسوة المصاحبة لها، على لسان امرأة من الطبقة الفقيرة، لكنها امرأة متعلمة، ومثقفة، نعرف ذلك من خلال الرواية. فاللجوء إلى هذه الحيلة دائماً ما يوفر سلطة الإقناع التي تساعد على متابعة العمل من دون تبرم، أو تساؤلات عن الخلفية المعرفية للشخصية. فقد قام الكاتب بصناعة مشهد دالٍّ، ألقاه علينا بصيغة الماضي على لسان البطلة عندما كانت طالبة، وعثورها على سيدة ستغير حياتها، وتعطيها دفعة قوية لمعرفة العالم، ومبرراً قوياً لنا، نحتفظ به لأنفسنا حينما نتساءل: من أين لهذه الشخصية القابعة في أعماق الريف بهذا الوعي، وهذه الفصاحة؟
يأتي الحل المثالي هنا، وهو تذكر البطلة يوم أن كانت طالبة في المدرسة، عمرها خمسة عشر عاماً، عندما جاءت جلستها داخل سيارة أجرة، تنقل الناس بين القرية والمدينة، بجوار سيدة تطلق سراح شعرها، ويفوح العطر منها، استطاعت أن تجذب انتباهها بأسلوبها البسيط. لقد شاهدتها وهي تخرج من حقيبتها كتاباً، وتبدأ في قراءته، تابعتها، فلمَّا انتبهت إليها السيدة سألتها:
«- تقرأين؟
– لا.
– الخيال ضروري.
– وأين هو؟
ضربت بكفها على الكتاب وقالت:
– في هذا الكتاب، وديان وجلال وجبال ثم هناك أعلى القمم.
– ما هي؟
– خيالك أنت.»
يستمر المشهد في السيارة، يتصاعد لنعرف كل شيء عن السيدة الغريبة، المتزوجة بأحد أبناء القرية، ثم الصداقة التي ستنمو بينهما، بعدما وعدت بإحضار الكتب لها، كتاباً بعد كل كتاب تنتهي من قراءته.
البطل يحكي حكايته
تمثل براء، وهذا اسمها، العنصر الرئيسي، كسارد حاضر بوصفه شخصية في العمل: «البطل يحكي حكايته». فهي تمتلك توجيه مسار الأحداث، عن طريق ضمير المتكلم الذي ينبئ بما في داخلها، أفكارها وآلامها، شهادتها على زمن شبيه بزماننا، وأجواء حروب دامية. لكنها الحرب على أي حال. التي تجد أصداءها في السودان، وسوريا، واليمن، والعراق، وليبيا.
تلك الانشقاقات العميقة بين أفراد الوطن الواحد، وعداءات مريرة بدون مقدمات، كل ما هنالك أنه قد تم تجهيز البعض، من قبل جهات خارجية، معادية لهذه الأمة، وإسنادهم بالسلاح والمال، ووقود فكري كافٍ لبث الكراهية الفادحة، من أجل خلخلة الدول، وتقسيمها إلى كانتونات صغيرة، حيث يصعب مع الوقت توحيدها، أو إعادتها مجدداً إلى تاريخها، وتراثها الجمعي، الذي كان يبسط ظله على كل المواطنين باختلاف عقائدهم، ويضمهم تحت راية واحدة. لتصبح المنطقة، في النهاية، لقمة سائغة للطامعين، (ابحث عن المستفيد، تصل بسهولة إلى النتيجة).
إنها الحرب التي تخرب النفوس، وتهدم الآمال، وتكتسح أمامها كل شيء، تقضي على البشر والحجر، وتدمر الأخضر واليابس، ولا تترك وراءها غير الحطام. لقد رسم الكاتب بيئة تلخص كل بيئات المنطقة، مكاناً ينتمي إلى منطقتنا، شبيهاً بكل الأماكن، تارة قرية، وتارة أخرى مدينة، ثم بعد ذلك بيئة صحراوية، أماكن قريبة جداً إلى المواقع الجغرافية المألوفة لدينا. وهي ليست المرة الأولى التي يعمل فيها الكاتب على هذه الثيمة، فقد قاربها من قبل في روايته «ممرات الفتنة»، لكن تحت تأثير حرب أكثر شرفاً، حرب ضرورية لا مفر من خوضها لاسترداد الأرض والكرامة. كان يكتب عن حرب تشرين (أكتوبر) المجيدة، كمرجعية للرواية، وعن العائدين منها بجراح عديدة. فقدان أعضاء بشرية، ذراع أو ساق، عين، وتداعيات فترات التجنيد الإجباري الطويلة، التي ربما وصلت إلى عشر سنوات لدى البعض. هؤلاء الذين تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية قبل الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967م، ولم يتم تسريحهم إلا في عام 1974 بعد انتهاء حرب أكتوبر.
هناك، بعيدًا عن القاهرة، في محافظة أسيوط، يعيش مصطفى البلكي، مكتفياً بوظيفة تدر دخلاً يكفيه وأسرته، ومكتبة وأوراقاً، يصدر أعمالاً إبداعية، كتاباً وراء الآخر، مراوحاً بين كتابة الرواية والقصة، وكتب الأطفال، ملتزماً الجدية في كل ما يكتب. لا ينتظر من العاصمة أي التفاتة إليه، إنه يكتب فقط، ويترك المتابعة للآخرين. وللضمير النقدي.
نص نثري رفيع
عن طريق الوصف، والتوترات الناجمة عن شخوص الرواية، استطعنا الاقتراب من تلك الأجواء التي قام بتصويرها، رغم اللجوء إلى التجريد، أحياناً، فلا تعيين صريح لهذا المكان، ولا اسم حقيقيا، أو عنواناً تخيلياً له من لدنه.
ولكن يجب الإشارة هنا، إلى أننا إزاء نص نثري رفيع، كتب بأسلوب غير مصطنع، مبتعداً عن التكلف، ما سهَّل مهمة القراءة، وجعل الكلمات تتوالى على نحو سلس، وشائق، حتى أن المتلقي يجد نفسه قد أنهى الرواية من دون أن يشعر، رغم أحداثها المثيرة، والأفكار التي تستحق التأمل. فلا نتوءات، أو وقفات مربكة تخرج القارئ عن الاندماج في العمل، وتسرح به بعيداً عن سير الأحداث. ما يجري هنا ليس تسجيلاً حرفياً للواقع، بل إعادة إنتاج لواقع آخر، شبيه بالواقع الذي نعرفه، ونلمسه في الأماكن المنكوبة، حيث الدقة في إقامة هذا المثال روائياً، من دون تورط في تعيين الحوادث الحقيقية، ربما كان هذا هو دور الأدب والفن في المقام الأول، وطبيعة عملهما في استنهاض الوعي الجماعي، والتحذير من آثار الصراعات الداخلية العنيفة في تماسك وسلامة الأوطان، ومدركاً لخطورة الحروب الأهلية، التي تأتي بالقتل، والجوع، والأوبئة، ولا تحقق المساواة إلا في شيء وحيد: تدمير كل الفرقاء.
أما الأثر الحقيقي للرواية، فهو نتيجة التمسك بالقواعد الجمالية، وعدم الانفصال عن هموم المجتمع. فالعمل الأدبي ليس سلعة في نهاية الأمر، بل التزاماً إنسانياً قبل كل شيء، وطبيعته الأصيلة تتنافى تماماً مع مفهوم المنفعة.
في أحد المشاهد يسرد الكاتب على لسان البراء ذهابها إلى سوق المدينة، لبيع مصوغاتها، الذهب الذي كانت تدخره للأزمات، أو كما كانت تقول لزوجها: «ذهبي أدخره لعجز حالي». إنه الشيء الوحيد الذي قد يمد حبل الحياة في ذلك البيت أياماً مقبلة حتى يأتي الفرج، خاصة بعد ذهاب الزوج إلى الحرب، متطوعاً مع المقاومة. في طريق العودة بالحافلة، تلتقي امرأة عجوزاً، تشعر بآلامها، تفاجئها: «هوِّني على روحك الوجع». توقظها الكلمات، وتسقط الدموع من عينيها، تلاحظها العجوز، تقول لها بأن اليوم لم يكن مناسباً للبكاء.
تلك العجوز لها قصة أخرى لا تقل إثارة، لقد تخيلتها أمها والعجوز تنطلق في مواساتها، بجمل قليلة وبليغة، لكنها لاحظت أيضاً أن هناك شيئاً ما يعارك روحها. شعرت المرأة باهتمامها. فوضعت يدها على يدها لتطمئنها بأن كل شيء سيمضي، كل شيء سيكون بخير. وتخرج من صدرها فانلة صغيرة، مثقبة، وملوثة بالدماء. ليبدأ ديالوغ يستحق الانتباه، يتصاعد تدريجياً بين المرأتين، ليكشف لنا عالماً حضرنا تفاصيله من قبل. تسألها البراء:
– «لمن هذه؟
– لحفيدي.
– مات؟
ـ قُتل في المظاهرات.
– ومن جاء لك بها؟
– حفيدي الآخر.
– وأين هو؟
– تركني حيث ذاهبة إليه.
– لم؟
– ليبحث عن والده.
– وأين والده؟
– فر من مكان المواجهة وجاء إلى هنا، بعقل ضائع.
ثم هزت رأسها، وتمتمت:
– تباً لكل حروب الدنيا.»
لم ينتهِ الحوار عند هذا الحد، ولكنه قدَّم إلينا صورة مفصلة لسيرة الوجع الجماعي، وانزلاق الجميع إلى الهاوية، كرهاً أو اختياراً، حيث لا مفر من المضي وراء نداهة الفتنة. وأثناء عودتها تقع أسيرة في قبضة إحدى الفصائل، هي وامرأتان، لكل واحدة منهما حكاية، يسردها علينا مصطفى البلكي، واحدة تسعى خلف حلمها بأن تشيد خمسين مدفنة، وفاء لنذر قطعته بعد موت أمها، والأخرى كانت تعمل في حانة. تتلاقى مصائرهن، فتعمل براء كخادمة في البيت الذي يسكنه قائد المسلحين الذين أسروها. ثم ينسج بعدها نهاية لكل واحدة: المكتنزة تموت بين أيدي المسلحين، وعاملة الحانة تفر من المعسكر، لتجد زوجها أمامها كأسير حرب، سرعان ما يتم إحراقه أمام عينيها. وفجأة تنتهي الحرب كما بدأت، وتستيقظ فلا تجد أي أثر في المعسكر، فتغادره وتعود إلى قريتها، فلا تجد أطفالها. تنتقل إلى المدينة، تبحث عن أطفالها، وحينما لا تجدهم، تقابلها عاملة الحانة، وتخبرها بأن قائد المسلحين يرتاد إحدى الحانات، فتقرر على الفور أن تعمل في تلك الحانة، بدافع الانتقام، لتنشأ علاقة شائكة، وأحداث تستحق المتابعة.
مونولوغ داخلي
تحتشد الرواية بتلك المواجهات الإنسانية، مونولوغ داخلي، ديالوغ بين شخصيتين، يغلفهما الحزن، حوار مشترك بين جموع صاخبة، يلتقط نبرات العجز، ويفسح المجال لرؤية طبيعة هذا الوجود المتعثر، على نحو يجعلنا نرى ظروف الحياة الحقيقية لهؤلاء البشر، وتعميق معرفتنا بما يجري، برغم من إضافة كل المكونات الخيالية التي تحفظ للرواية جاذبيتها، وتتيح لها اتساع الأفق الفني، من خلال تراكم الحكايات التي تقلص المسافة بين الوهم والحقيقة.
بما يذكرنا بأن من أدوار الرواية أن تكون إبداعاً نقدياً، يعمل بجوار التاريخ على توثيق اللحظات الفارقة، الفاصلة، لكنها تمتلك كثيراً من الإمكانات، واحد منها يكفي لاحتواء العالم بداخله، وهو الخيال. فالأدب هو الأكثر نجاحاً في تصوير الأشياء، وهو ما جعل من الحرب ذروة المأساة الإنسانية، بدءاً من ملحمة الإلياذة للشاعر الإغريقي العظيم هوميروس، وكُتَّاب المسرح الكبار سوفوكليس، يوربيديس، أسخيلوس، شكسبير، وصولاً إلى الروائي الأمريكي ستيفن كرين، برائعته «وسام الشجاعة الأحمر»، والألماني إريك ماريا ريمارك، وعمله الأشهر «كل شيء هادئ في الجانب الغربي». وأعمال أخرى لا حصر لها لكُتاب آخرين، ولا تقل أهمية. خاصة عند كُتاب أمريكا اللاتينية.
مصطفى البلكي: «سبع حركات للقسوة»
سما للنشر والتوزيع، القاهرة 2024
231 صفحة.