مقالات

في تفسير محدودية فاعلية حركات السلام الغربية

في تفسير محدودية فاعلية حركات السلام الغربية

عمرو حمزاوي

في زياراته المتكررة للعاصمة الأمريكية واشنطن، يخاطب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الرأي العام ومجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ) شاكرا دعم الولايات المتحدة العسكري والمالي في مواجهة العدوان الروسي ومؤكدا على أن بلاده تكافح في سبيل انتصارها وانتصار القيم العالمية التي تؤمن بها الحكومة الأوكرانية والحكومة الأمريكية وحكومات العالم الحر والمتمثلة في رفض غزو أراضي الغير ورفض احتلالها بالقوة ورفض الانتقاص من السيادة الوطنية للدول المستقلة.
غير أن زيلينسكي، وهو يحصل في كل زيارة لواشنطن على نظم عسكرية إضافية وتعهد بمساعدات مالية إضافية (60 مليار دولار مؤخرا) تتجاوز مجمل ما تقدمه الولايات المتحدة للقارة الإفريقية من مساعدات تنموية ومساعدات للبنى التحتية كان عليه أن يدرك أن القوة العظمى الداعمة له ولبلاده لم تلتزم في الكثير من سياساتها الخارجية بقيم رفض الغزو والاحتلال والانتقاص من السيادة.
لن أعود إلى وراء حروب الولايات المتحدة في آسيا (كوريا وكمبوديا وفيتنام ولاوس) وتدخلاتها العسكرية المتكررة في أمريكا اللاتينية وافريقيا في النصف الثاني من القرن العشرين. فقط سأذكر بما حدث خلال العقدين الماضيين من غزو لأفغانستان والعراق وحملة عسكرية على ليبيا وهجمات لم تتوقف في اليمن وسوريا ومنطقة الساحل في غرب افريقيا للتدليل على أن التعامل الأمريكي مع القيم العالمية التي أشار إليها زيلينسكي تغيب عنه المصداقية ويتسم بالانتقائية البالغة والمعايير المزدوجة.
بل أن غياب المصداقية والانتقائية والمعايير المزدوجة تصبغ كصفات أساسية السياسة الخارجية للتحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة بأدواته العسكرية (حلف الناتو) والاقتصادية والمالية (مجموعة الدول الصناعية السبع). يعلن صناع القرار الأمريكيون والأوروبيون أن دعمهم لأوكرانيا يترجم رفض بلادهم المبدئي والفعال للغزو والاحتلال، بينما هم ومنذ عقود طويلة بين مدافع عن ومتجاهل للغزو والاحتلال الإسرائيليين لمرتفعات الجولان السورية وللضفة الغربية الفلسطينية ولاحتلال ثم حصار قطاع غزة الفلسطيني ثم الحرب المستمرة عليه منذ ما يقرب من عام.

اليوم ينقلب صناع القرار الألمان ومعهم أغلبية الحكومات الأوروبية على اختيارهم التاريخي للسلم والأمن في العالم منذ انتهت الحرب العالمية الثانية، ويركضون وراء الأمريكيين في عسكرة الصراعات الدولية

ينتقد الأمريكيون والأوروبيون عجز مجلس الأمن الأممي عن استصدار قرار إدانة للغزو الروسي لأوكرانيا بسبب توظيف موسكو لحق الفيتو، بينما هم ومنذ عقود طويلة يستخدمون حق الفيتو الأمريكي والبريطاني والفرنسي للحيلولة دون إدانة الحرب والغزو والاحتلال الإسرائيليين والاستيطان الممنهج في القدس الشرقية والضفة الغربية. يطالب الدبلوماسيون الأمريكيون والأوروبيون اليوم بإصلاح الأمم المتحدة وتعديل ميثاقها لتجاوز عقبة الفيتو الروسي (والصيني أيضا) وتنشيط دورها لحفظ السلم والأمن الدوليين، ويتناسون أن الغرب ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 هدد مرارا وتكرارا السلم والأمن في العالم بتدخلاته العسكرية وحال دوما موظفا للفيتو الثلاثي لواشنطن ولندن وباريس دون إدانة أفعاله أو محاسبة المسؤولين عنها ووقف المنظمة الدولية وبين الاضطلاع بدور حقيقي ومستقل.
كذلك لا تقف صفات غياب المصداقية والانتقائية والمعايير المزدوجة التي تصبغ السياسة الخارجية للتحالف الغربي عند حدود المواقف من الحرب والغزو والاحتلال، بل تمتد إلى مجمل التعامل مع الصراعات الدولية وسبل حلها حين تنشب واستخدامات القوة العسكرية في هذا الصدد.
تاريخيا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تبلور داخل التحالف الغربي تفاوت بين موقف أمريكي-بريطاني لا يخشى التورط في صراعات دولية ويفضل توظيف الأدوات العسكرية لحسمها وبين موقف فرنسي-ألماني يتحفظ على استخدام السلاح ويفضل الأدوات الدبلوماسية، حوارا ووساطة وتفاوضا واتفاقا، لحل الصراعات. هكذا على سبيل المثال ذهبت القوات الأمريكية والبريطانية لغزو العراق في مارس 2003 بينما رفض الفرنسيون والألمان التدخل العسكري وامتنعوا عن تأييد حلفائهم.
أما اليوم وبالنظر إلى مجمل المواقف الغربية، فإن التفاوت بين نزوع الأمريكيين والبريطانيين إلى السلاح وبين التحفظ الفرنسي والألماني وتفضيل الأدوات الدبلوماسية يكاد يتلاشى بالكامل. بل أن ألمانيا ما بعد النازية التي صاغت سياستها الخارجية منذ النصف الثاني من القرن العشرين كقوة سلام وامتنعت عن توريط سلاحها في مناطق الصراع، صارت حكومتها (وهي حكومة ذات أغلبية يسارية، وحزبها الأهم وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي صاغ تاريخيا سياسة الانفتاح على الشرق المتمثل ماضيا في الاتحاد السوفييتي وحاضرا في روسيا) تعلن يوميا عن تقديم دعم عسكري إضافي لأوكرانيا ويضغط عليها الإعلام (يشقيه الليبرالي واليساري) لمواصلة إرسال دبابات وعتاد ثقيل إلى الجبهة الأوكرانية. تبدل الموقف الرسمي الألماني من رفض استخدام السلاح وتفضيل الدبلوماسية إلى توظيف للأدوات العسكرية واستخفاف بتداعياتها وانسحاب كامل من جهود الحوار والوساطة والتفاوض التي ميزت سياسة برلين الخارجية ونجحت من خلالها أكثر من مرة في منع نشوب صراعات مسلحة وحروب على الأراضي الأوروبية.
اليوم ينقلب صناع القرار الألمان ومعهم أغلبية الحكومات الأوروبية على اختيارهم التاريخي للسلم والأمن في العالم منذ انتهت الحرب العالمية الثانية، ويركضون وراء الأمريكيين في عسكرة الصراعات الدولية وتجاهل فرص حلها سلميا دون سلاح ودمار.
لا تعفي غلبة النزوع الغربي نحو استخدام السلاح في الصراعات الدولية الحكومة الروسية لا من المسؤولية الكبرى عن الحرب الدائرة في أوكرانيا ولا من تداعياتها الكارثية على العالم اقتصاديا وماليا وأمنا غذائيا وإنسانيا. غير أن استسهال الغربيين توظيف السلاح والنظم العسكرية ينزع عنهم هم حق الحديث والفعل عالميا كحماة السلم والأمن الدوليين، مثلما ينزع عنهم غياب المصداقية فيما خص قيم رفض الحرب والغزو والاحتلال والانتقاص من السيادة الوطنية حق انتقاد الدول غير الغربية الرافضة اليوم للإدانة الأحادية للغزو الروسي لأن أعمال حرب وغزو واحتلال كثيرة أخرى امتنعت الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن إدانتها في الماضي وفي الحاضر مثلما تشهد حرب غزة الراهنة.

كاتب وأكاديمي من مصر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب