أحلام الضفة الأخرى: لماذا يلجأ الشباب المغربي إلى «الحريك»؟
المصطفى كليتي
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
أحمد شوقي
تكثر التساؤلات حول الدواعي إلى هذه الهجرة الجماعية، أو الهروب الكبير عبر ثغر سبتة المحتل، فلماذا تم تحديد موعد 15 سبتمبر/أيلول 2024 بالضبط؟ موعد مرسوم من أجل اقتحام الأسلاك الشائكة للضفة الأخرى، أو «الإلدورادو» أو جنة النعيم الكامنة في الضفة الأخرى، سدرة منتهى الحالمين بالهجرة الجماعية المعلنة عنها عبر وسائط التواصل الاجتماعي بكل جرأة وتحد، فمن يحرض الشباب والأطفال والفتيان على هذه المغامرة المحفوفة بكل المخاطر والعواقب؟
وقد تم اختيار مدينة الفنيدق الهادئة الناعمة وهي منتجع صيفي يقبل عليه السياح في الأيام الصائفة، ثم ها هي حشود جاءت في إنزال قوي غير مسبوق وقد وقع زحف شباب بشكل مكثف غير مسبوق بغية اقتحام السياج الأمني الفاصل بين مدينتي الفنيدق المغربية وسبتة المحتلة من قبل إسبانيا، حدث أثار القلاقل واستدعى استنفار أمنيا هائلا، فمن يقف – إذن – خلف هذه الواقعة المغرضة والماسة بكرامة المغرب، والهادفة إلى تشويه سمعته الدولية، ولاسيما وسيل من الفيديوهات المنتحلة والمفبركة تنشر عبر قنوات البث، ووسائل التواصل راصدة هذه الهجرة الكبرى، التي جيش لها شباب مغامر مغتنمين حالات طقس مساعدة تسهل إمكانية العبور إلى الضفة الأخرى التي يحلمون بها، سباحة.
شهدت مدينة الفنيدق حالات استنفار أمني ودخلت في عمليات فر وكر ومطاردات وسط أحياء المدينة، وشباب، قد زحف زرافات ووحدانا من مختلف المدن المغربية، ومن بينهم مهاجرون من جنوب افريقيا ومغامرون مجازفون مندسون من الجزائر تحديدا، ما أدى إلى ضرورة عسكرة المنطقة واعتقالات بالجملة وإعادة الكثير منهم إلى مدنهم بواسطة حافلات أعدت لذلك، كما جرى ضبط وتحقيق مع محرضين عبر منصات التواصل الاجتماعي. هجرة ليست سرية، بل هي عملية «هروب كبير» لعبت فيها شبكات التواصل الاجتماعي دور الترويج والتحريض. والمثير في الهجرة الجماعية هو العدد الكبير من الأطفال واليافعين ضمن المتحفزين للهجرة أو «لحريك» كما يصطلح عليها، فكلمة «حريك» آتية من الحرق والبوار والدمار، فلماذا كل هذا الصبيب المرتفع من اليأس والهروب من الوطن والتحلل من كل انتماء؟ فالإقبال على الهجرة يكون عادة لتجارة أو علم ينتفع به، أو مغامرة اكتشاف الآفاق البعيدة، أو نتيجة أوضاع بيئية كارثية، أو احتدامات حروب، كما أن المهاجر من وطنه يكون صاحب حرفة أو موهبة أو خبرة معينة تسعفه في تدبير أمره، أما هؤلاء «الحراكة» من أطفال ويافعين وشباب لا يتقنون حرفة ولا صنعة ولا لغة، يتواصل بواسطتها مع لآخر، فكيف يغرر بهم ويقذف بهم لقمة سائغة لسمك البحر ولطم الموج، كيف لا يفكرون في تكوين مستقبلهم وبناء أنفسهم داخل حصن وكرامة وطن، يحفظ ماء وجههم وذل الهجرة ومد اليد للآخر، إلى أي مدى تسلق اليأس نفوس الشباب، وأصبح اختيار الهجرة أو «الحريك» رهانا وبديلا لذلك المستقبل المنشود، متخذا من ابن الدرب الذي ذهب إلى بلاد الغرب فقيرا معدما ورجع مكسوا بالحرير يسوق سيارة من طراز آخر صيحة وإلى جواره امرأة، في عمر أمه أو جدته، يشبك يدها في يديه ويمشيان في الأسواق، ويجد في ذلك نموذجا يحتذى، دون تعب مدرسة أو تحضير شهادة أو دبلوم، كما لو أن الوصول إلى الضفة الأخرى جنة ترجى في الأرض !
يعزى ذلك لتراكم عوامل اقتصادية تتمثل في انخفاض الدخل وانعدامه حتى، وإلى تفشي البطالة والفقر، أسباب متشابكة تحفز حلم الهجرة لتحسين أوضاع العيش، لكن ما كل ما يتمناه المهاجر يدركه، تجري رياح التعقب بما يحاصره ويعيده إلى مربعه الأول خائب الأمل في هجرة لن تتحقق !
عوامل شتى تجذب الشباب لمغامرة الهجرة، حيث الحلم الأوروبي يبقى مفروشا بالورد، كما لو أن العمل في انتظاره، والحسناء تحبه لسواد شعره، أو عينيه غير أنه كالحالم المسرنم، سرعان ما يستيقظ على كوابيس لم تكن له في الحسبان، وكم من «حراك» يخرج ناويا الهجرة مرتميا في مراكب الموت، سواء من المهدية أو مولاي بوسلهام أو الجديدة، فيتخلص منه وسطاء الهجرة وقد بدت الأضواء من بعيد وعندما يسفر الصبح عن بهاء يوم جديد، يجد نفسه على أعتاب مدينة العرائش، أو إحدى المدن المغربية، فيخبط يده أخماسا وأسداسا، لأنه شرب مكر مقلب لم يكن أبدا في الحسبان !
إن حدث الفنيدق أجلى حقيقة جديدة تتجسد في التحريض الرقمي، الذي يعد بحق جريمة إلكترونية بكل المقاييس، ويدخل في نطاق نشاط الشبكات المنظمة للهجرة أو «لحريك» الجامع بين ما هو شبه منظم وعشوائي، فقنوات الفضاء الأزرق ووسائل التواصل الاجتماعي بكل أصنافها وأنواعها باتت تشكل أكثر من خطورة، حينما تستخدم سلبيا، فقد كان لها أبلغ الأثر في تجييش الحشود، وحثها على الهجرة، رغم أن السلطات المغربية التي تعمل كدرك المنطقة لها عبء الحراسة الدائمة، والمغرب يفي بالتزاماته تجاه المنتظم الدولي في محاربة الهجرة السرية وتهريب المخدرات، ومقاومة كل أشكال الإرهاب، بانتباه وحذر شديدين، وهو لا يألو جهدا في محاربة الهجرة غير الشرعية، فكيف يتحول ليلة المنتصف من شهر سبتمبر2024 إلى قبلة هجرة جماعية من أبناء البلد، ومن مختلف البلدان الافريقية وبلدان الجوار التي تتحين الفرص لتشويه صورة المغرب كبلد لا يراعي حقوق الإنسان، وذلك فبركة فيديوهات لوقائع أحداث جرت في أمكنة ما على الأرض وتنسبها على أنها وقائع تجري الآن واللحظة في الفنيدق على مشارف سبتة.
جغرافية المغرب الاستراتيجية وقربه من أوروبا، التي تبقى على مرمى حجر، كما يقولون، تجعله الجسر الأنسب لضفاف الأحلام المشتهاة، فهو من الجهة الجنوبية المحاذية «للاس بلماس» مرورا بمنطقة الجديدة والشريط الساحلي الأطلسي المار بالمهدية والعرائش، انتهاء بمحطة الفنيدق، حيث يتخندق كل من يسعى للهجرة و»الحريك» ضيقت السلطات الأمنية الراصدة، النطاق على الشبكات المنظمة للهجرات السرية، ما جعلها – بفعل فاعل مؤثر – البحث عن حل يفك الحصار والقيود وجعلت من اليوم المشهود للهجرة سببا وذريعة للقيام بعملية الهروب الكبير، الذي تم إحباطه، جراء يقظة الأمن وحراس الثغور والحدود. فمن يسعى إلى خلق التوتر والبلبلة داخل المغرب، هل مواجهة الأمن بالعنف من قبل شباب أجانب مسألة سليمة؟ إلى متى ولأسباب إنسانية ترعى حقوق الإنسان يتسامح المغرب ويتغاضى عن افارقة منحدرين من مختلف البلدان الافريقية، ويجعلون من المغرب بلد إقامة، أو عبور في معظم الأحيان؟ في حين لا تلقى من دول الجوار إلا الصد والطرد. بون شاسع بين شباب يدبر أسباب الهجرة الشرعية من أجل إثبات الذات وتحقيق الطموحات، وشباب لا يتوفر على مؤهلات بالمرة ويسعى جزافا إلى هجرة تتلبسها مخاطر المغامرة من كل حدب وصوب، بل يذهب ضحية وصيدا سهلا لتجار البشر والمتاجرين في الأعضاء ومروجي المخدرات والدعارة، وغير ذلك من موبقات السوق السوداء !
أكيد أن المقاربة الأمنية ليست وحدها القادرة على وضع حد للهجرة السرية أو العلنية، بل لا بد من مقاربات عميقة، ولعل في مقدمتها مفهوم المواطنة الحقة ومفهوم الانتساب للوطن، فكيف لمن يعيش الهدر المدرسي، ويغادر مقعد المدرسة دون أن يستوفي دروسه الابتدائية، أن يفكر في الهجرة بل يشتكي باكيا بأن هذا الوطن لم يقدم له شيئا، فيفكر في الهجرة أو «لحريك»؟ كيف للحكومات المتعاقبة لم تجد حلولا ناجعة لظاهرة البطالة الظاهرة والمقنعة، التي تستشري طولا وعرضا في البلاد؟ أكثر من مليون ونيف في سن البناء والتكوين ما بين 15 سنة و30 سنة لا يزاولون أي نشاط عملي أو دراسي، أو حرفي، كيفما كان نوعه، فماذا يمكن أن ينتظر المجتمع من هذه القنابل الموقوتة؟ إنسانية الإنسان تتحقق حينما يجد رغيفا نظيفا يأكله وماء صافيا يشربه وسقفا آمنا يأويه من جوع وخوف، مع ضمان تعليم سليم يؤهله لخوض غمار المستقبل وتطبيب يؤمن سلامته الصحية ورعاية بحياة طيبة كريمة تغني حياته بالعدل والحرية والجمال، فإن كان حب الوطن من الإيمان، فمن الإيمان زراعة البشر بالتعليم والقيم الرفيعة، فإن كانت زراعة حبة قبح على مدار أشهر في السنة، فزراعة الشجر تقتضي عشر سنوات، أما إعداد الإنسان للصراع مع الطبيعة والظروف الصعبة، فيتطلب ذلك أجيالا ، فالبناء يبدأ من عتبة البيت، أما الهجرة ومغامرة «لحريك» فسفر ضياع في نفق المجهول.
كاتب مغربي