شارع دجلة… تراجيديا وطن

شارع دجلة… تراجيديا وطن
كاظم غيلاني
خترق شارع دجلة جسد مدينة العمارة جنوبي العراق، وتشي تحولاته بشيء من الكرنفالية بحكم موقعه المحاذي لنهر دجلة، وشريط حدائق الورد وأشجار الآس على العكس من تؤامه (شارع بغداد) الذي يشهد وقائع عاشوراء، حيث تخترقه مواكب العزاء الحسيني بالضرب على الصدور وتطبير الرؤوس بالآلات الجارحة (القامات) بينما يتناوب قراء المنبر الحسيني في خطبهم ورداتهم . انقلب الأمر تماما على الأول (شارع دجلة) منذ انتفاضة الربيع مارس/آذار 1991 إذ غابت تلك البهجة الطافحة في وجوه شبانه الحالمة، الذين تواروا بين سجين ومغيب وقتيل بعد أن انخرط معظمهم بأحداث الانتفاضة، تلك التي اسقطت هيبة سلطة حكمت العراق بالنار والحديد، وكان مؤلف «شارع دجلة» واحدا منهم، نجا بأعجوبة واستقر به الحال في منفاه الأسترالي، واستعاد بكل ما فيه من طاقة كشاعر وفنان مسرحي ليدون عبر (206) صفحة من القطع المتوسط صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة فصولا من تراجيديا وطن منطلقا من شارع دجلة الذي شهد نمو مواهبه مع عدد من مجايليه . عبد الخالق كيطان في كتابه هذا لخص سيرته، وما تخللها من فصول إلى جانب ما شهدته مدينته والعراق من عصف مأساوي تسببت به حربا الخليج، التي توجت بحصار قاهر أطبق على البشر والحجر، انتهت فصوله بإسقاط نظام صدام حسين في نيسان/ أبريل 2003.
تبدأ فصول الكتاب من بيان تحذيري ألقته مروحيات النظام على أهالي المدينة، يأمرهم بالخروج عن مركز المدينة لأنها ستتعرض لقصف بقنابل جرثومية .تحولت البساتين التي تحيط المدينة إلى مدن صغيرة مأهولة بسكان مذعورين علت صفرة الخوف ملامحهم، بينما بات المستقبل المجهول في عالم مصيرهم كبشر لهم الحق في أن يعيشوا، ولو على هامش الحياة. تكدسوا في ذروة أزمات غذاء ودواء وكل ما يعين الناجي من الجحيم، حالات طلق نساء، صراخ أطفال، أخبار لا تسر . قوات النظام اقتحمت المدينة بوحشية لتقتل كل من يصادفها دونما محاكمة ولا حتى سؤال، عربات نقل قمامة تابعة للدوائر الخدمية بدأت تنقل بعض جثث القتلى، سقوط المقاوم الشعبي قاسم عبد الرضا، برصاص جنود الحرس الجمهوري بينما يقف على مقربة من جثته الجنرال العراقي هشام صباح الفخري، معجبا بشجاعته! يعود عبد الخالق كيطان مع أهله بعد أن سمحت السلطة بعودة العوائل ليفاجأ بمقتل شقيقه سلمان، تقطعت طرق المواصلات، ما اضطر العائلة لدفنه مؤقتا في جزيرة يقطنها أقرباء لهم، بعد مبيته في غرفة الاستقبال لليلة واحدة .المأساة العراقية لم يختصرها كيطان في مدينته وشارعها، فقد امتدت لمعظم مدن العراق. يصطحبه شقيقه القاضي عبد الرحمن إلى مقر عمله في مدينة (الحلة) فيشاهد حفلة إعدام للنخيل العراقي الممتد بين الحلة وكربلاء بإشراف الجنرال العراقي طالع الدوري بأمر من رئيس النظام . أبطال شعبيون أقامت وقائعهم في ذاكرة كيطان باتت لم تبرحها، رغم منفاه وتنقلاته كان لها بريقها في تلك الانتفاضة (حسن عورة الذي كان معروفا بكتابة الأبوذية، أحد ألوان شعر العامية، سعدون الحلاق الذي قتل على مرأى الناس، وقذف الجند جثته، سميرة المصورة التي اقتيدت لسجن الرضوانية بتهمة قيادة نساء المدينة، وقتل عدد من حرس النظام وهي صاحبة الماضي الشيوعي). في تلك الأجواء التي أعقبت فصولا دامية أغرم كيطان وصديقه عصام حسين، بصوت المغني العراقي رياض أحمد، الذي امتاز بأداء (المحمداوي) لون من تراث الغناء العراقي ليقارن ما بحنجرته من انين بشارع دجلة. في الحقبة تلك التي اشتد صخبها واضطراباتها وطفح أنين وقهر العراقيين فيها لمستويات فاقت كل التصورات المحتملة وغير المحتملة، جراء مغامرة صدام حسين بغزو جارته الكويت، ليجعل منها محافظة عراقية كان عبد الخالق طالبا في أعرق الأكاديميات الفنية (كلية الفنون الجميلة) وشاعرا يكتب قصيدة النثر ومسرحيا، عاش في قلب الحدث الثقافي وشهد ما حصل للثقافة العراقية من انحدار، وتردٍ ورخص. قصائد المديح التي راحت تسهم في تجميل وجه النظام والتنافس على لوائح تسعيرها، ومن ثم اختراق أعرق صرح أدبي (اتحاد أدباء العراق) من خلال إلحاق منتدى الأدباء الشباب به وهو من توابع رئاسة الجمهورية وقتذاك.
فضلا عما تعرضت له قصيدة النثر من هجوم مقصود ومن أكثر من ناقد، بقصد الترويج لقصيدة العمود الشعري التي كرست مضامينها لخدمة النظام .في الأكاديمية التي يدرس فيها المؤلف، جرت سياسة التبعيث عند نهاية تسعينيات القرن الماضي، إلا أنها اخذت أشكالا قمعية طائفية بعيد تلك الانتفاضة . «شارع دجلة» شهادة ثقافية صافية دونت تحت لهب أحداث لم تزل إيقاعاتها في الذاكرة العراقية .