عزّة: يخشى الاحتلال من جريح عاجز فيكبله ونلقى عناية طبيبة واجتماعية كبيرة

عزّة: يخشى الاحتلال من جريح عاجز فيكبله ونلقى عناية طبيبة واجتماعية كبيرة
زهرة مرعي
وصلوا إلى بيروت للعلاج عبر صندوق غسّان أبو ستة
بيروت ـ في 24/12/2023 أصيبت عزّة وطفلاها التوأم محمد وعبدالله بعد أن تركت منزلها في مخيم النصيرات، والتجأت إلى منزل والديها في خان يونس، واستشهد والدها. كان ليلا مؤلما، نُقلت إثره إلى مشفى ناصر مع طفليها، ليل بدّل حياتها كما الآلاف من أهل غزّة.
في ذاك الليل اخترق صاروخ بربع طن من المتفجرات الطبقتين الثالثة والثانية من البناء، وانفجر في الأولى حيث كانت عزّة تنام مع طفليها. أصيبت بكسور متعددة في الرجلين، وتجويف وحروق في الظهر، وعشرات الجروح والشظايا والحجارة التي اخترقت كلّ جسدها بما فيه الوجه، وإصابة بالغة في رجل طفلها محمد.
عزّة تحتاج لعلاج طويل مع طفلها، وهي في بيروت عبر صندوق غسّان أبو ستّة للأطفال. ومعها كان لقاء في مقر إقامتها قريباً من مستشفى الجامعة الأمريكية، شرّعت خلاله جروحها الداخلية المؤلمة دون كثير من الأسئلة. فهي التي لازمت توأمها منذ ولادتهما كانت تستعد للعودة إلى الدراسة الجامعية، لكن العدو غيّر حياة كافة سكّان غزّة، وأنهى حياة أكثر من 42 ألف منهم.
○ هل من مراحل صعبة مررتم بها كعائلة قبل الإصابة؟
• التوأم من مواليد 5/9/2019 ومعهما عشت ليلة مريعة عندما قُصف المبنى القريب من بيتنا في مخيم النصيرات في بداية العدوان. نيران اشتعلت من الحادية عشرة ليلاً إلى السابعة صباحاً، جيث غادرنا سيراً بين الجثث المنتشرة في المكان إلى دار والدي في خان يونس. بعد أيام من وصولنا إليهم استفاق إبني محمد من نومه فزعاً ليقول لنا «في صاروخ داخل ع دار سيدي». وكان ذلك في في شهر تشرين الأول/اكتوبر. وفي شهر كانون الأول/ديسمبر صار حُلُم محمد حقيقة. كنت ما أزال اُكلّم شقيقتي عبر الجوّال حين سقط الصاروخ، وتطايرت شظاياه وأصابتني. تأكدت من إصابات بالغة لحقت بي، وطلبت الانتباه لطفليي. وعلمت لاحقاً أن صوتاً لم يصدر مني، وأنّ صراخي كان داخلياً. وصل المسعفون، اعتقدوا أني فارقت الحياة، ووضع الغطاء على وجهي. وحين اُنقذ ولديّ محمد وعبدالله، ورُفعت الأنقاض عن جسدي، سمعت المسعفين يرددون بضرورة ستري، فرفعت يدي من دون كلام، فعلموا أني ما زلت على قيد الحياة. وطلبوا مني أن أتشهّد، ولاحقاً علمت أنهم توجسوا خيفة على حياتي من كمية الدماء التي كانت تنهمر من جسدي.
○ وماذا عن رحلة العلاج في غزّة؟
• عشت التجربة المرّة التي عاشها المئات بل الآلاف من الجرحى في قطاع غزّة. في مشفى ناصر لم يكن المخدر متوافراً، خيطت جروحي بدونه في عملية متواصلة استمرّت إلى الصباح. شعرت بأجلي يقترب، رجوت المحيطين بي الاتصال بزوجي لأسلّمه الطفلين. محمد أصيب بشعر في الجمجمة وكسر في الفخذ، فيما توزّعت الشظايا في جسد عبد الله. كان زوجي بصدد تجهيز خيمة تأوينا،علم باستهداف منزلنا، ووصل صباحاً لتفقدنا، وعلِم بإصاباتنا، فقد وعيه وركض إلى المشفى في حالة هستيرية، مُنع من دخول قسم الطوارئ حيث نرقد، وحين هدأ سُمح له بالدخول، وما أن رآني عادوته نوبة الصراخ لكنه تماسك عندما اُدخلت إلى غرفة العمليات لمعالجة الكسور المتعددة في الساقين، فنقل ابننا عبدالله إلى عمته، وعاد إلينا.
○ وماذا عن تفاصيل وضعك الصحي؟
• أعاني من كسرين في الساق اليسرى، وآخر في الفخذ، وآخر في الركبة، وكسر في الساق اليمنى، وكسور متعددة في الفخذ، وكسر سطحي في مفصل الركبة، وفقدت ستة سنتيمتر من عظم أسفل الساق. وفي غزّة لم يتجاوب الجرح في ظهري مع أي مضاد حيوي. وبوصول وفد طبي أجنبي إلى غزّة قرروا نقل رقعة من فخذي كغطاء للحفرة في ظهري، عندها بدأت بالتعافي.
○ كنت ما تزالين في مشفى ناصر حين حاصره الصهاينة؟
• نعم، ولم تكن الكسور قد عولجت لاستحالة ذلك في مشفى ناصر بل جرى تثبيتها فقط، عندما قرر الصهاينة حصاره وإخلاءه في شهر شباط/فبراير، بعد أن كان منطقة آمنة لآلاف المدنيين. طُلب من 14 ألف نازح متواجدين داخل المشفى ومحيطه إخلاءه. أسبوع متواصل والنازحون ينزحون مجدداً إلى أماكن أخرى حددها الاحتلال، وفي منتصف الليل أطلق صوتا عبر طائرة «كوات كابتر» بضرورة مغادرة المشفى من كل قادر على السير والتوجه نحو رفح. الطرقات محفّرة ولا تُسهّل السير، ومع ذلك غادر بعض الجرحى مسنودين إلى عكازين، رغم طول المسافة بين خان يونس ورفح، وبعضهم كان برفقة الأجهزة الطبية التي رُكّبت لهم.
○ ماذا تذكرين من تفاصيل ذاك الحصار؟
• قُطعت الكهرباء كلياً، بدأ الجرحى والمرضى يموتون من حولنا. شهدت حالات لا يحتملها قلب إنسان، طفلة مُصابة برأسها، مشلولة، وتحتاج مرافقة دائمة، أجبر الاحتلال والدتها على المغادرة. نُقل مرافقو الجرحى إلى مبنى آخر، وزوجي بينهم، وبات مفقوداً من حينها. جمعوا الجرحى والمرضى في الممرات، جميعنا عاجز عن الحركة، 160 جريحا ومريضا من مختلف الأعمار والإصابات. منعوا عنّا مياه الشرب التي كانت متوافرة في مخزن المشفى، اعتقلوا كافة الأطباء، وتركوا ثلاثة ممرضين عملوا ليل نهار على خدمتنا. ولحظة دخول الاحتلال المشفى فجّر المجاري، فبات بالتأكيد بيئة غير صالحة للمرضى والجرحى، ولمزيد من الإيذاء قصفوا مبنى المستلزمات الطبية، وبات الممرضون يقتصدون باستعمال المتوافر لديهم. حصار شديد استمرّ لأربعة أيام، الغذاء الوحيد الذي تناولناه خلالها البسكوت، وكان موجوداً في المستودع، وكان يعطى لنا تهريباً من قبل الممرضين بعد الـ11 ليلاً.
○ وهل من مشاهدات لا تُنسى خلال أيام الحصار داخل المشفى؟
• نعم إنهم الممرضون الثلاثة الذين سُمح لهم بالبقاء مع 160 مريضاً. لبّوا كافة متطلبات المرضى، من تنظيف الجروح، إلى العناية الطبية المتاحة لهم، إلى نظافتنا كمرضى عاجزين حتى عن دخول دورة المياه، ولم يهملوا نظافة المكان الذي حُشرنا فيه. وكان إلى جانبهم طبيب ترميم، ومجموعة من أطباء بلا حدود. ومن ثمّ ناشد مدير المشفى الاحتلال بالسماح لممرضين إضافيين بالعودة للعمل، فاستجابوا، وأطلقوا عشرة ممرضين كانوا معتقلين ومغلولي الأيدي، فباشروا منذ لحظة إطلاقهم بمهمات لم تنته طوال يوم كامل. على سبيل المثال كانت عشرات الجروح في جسدي تنزّ عملاً. في الحقيقة كان الممرضون طوال أيام حصار المشفى في حيرة من أين يبدأون، وإلى من يتوجّهون؟ كان الوضع صعباً للغاية لعدم توفّر الأدوات الطبية، وانقطاع تام لأدوية الحروق والبنج، وصراخ بعض الجرحى كان مؤلماً. يمكنني القول إن الممرضين عانوا متاعب كثيرة، وعملهم كان يمتد لحدود عشرين ساعة يومياً. سعوا بكل قواهم لإتمام واجباتهم، وتوفير بيئة نظيفة قدر المتاح، فجراح الكثيرين كانت مفتوحة، وخاصة الحروق.
○ وماذا عن مشاهداتك للمرضى؟
• لا يمكنني نسيان ذاك الطفل الذي أنجبته والدته بعد سنوات طويلة من العلاج. كان بحاجة دائمة للتنفس الاصطناعي. والدته ممسكة به طوال الوقت، وعندما انقطعت الكهرباء فقدت الأمل، فتركت معه وأنضمّت إلى مرافقي المرضى الذين لم يُسمح لهم بالبقاء. وكذلك رجل كان سريره بالقرب مني كان يناشد كل من يمر مكرراً حاجته لغسل الكلى، وأنه لا يريد أن يموت.
○ وكيف تعايش طفلاك التوأم مع هذه الحالة لأربعة أيام؟
• كانا في صدمة، ينظران إلى المرضى والممرضين بذهول. مريض سريره قريباً مني، إحتاج وبإلحاح لقضاء حاجته، فراح ينادي من يساعده بأي وعاء، نادى على إبني محمد ذي الرجل الملفوفة بالجبس، والمصاب بشعر في برأسه. خفت عليه، فلم يكن قادراً على السير من دون عكازات. جريحة كان لديها عُكّاز ساعدته بحدفها قنية ماء فارغة قريباً من سريره.
○ وهل كان الجنود يترددون إلى داخل المشفى خلال الحصار؟
• بين الحين والآخر كان الجنود يدخلون على المرضى باستعراض قوة وبرفقة كلابهم، يحيطون بالأسرة ويوجهون أضواءهم الكاشفة على الجرحى الذين لا قدرة لهم على الحركة. وكان يحلوا لهم ربط بعض الجرحى في أسرتهم رغم عجزهم عن الحركة، وسحبوا بعضهم إلى الخارج وبينهم نساء وأطفال. فهل من جبن أكثر من خوف جندي من جريح غير قادر على الحركة؟
○ كيف غادرت مشفى ناصر أولاً ومن ثمّ إلى مصر؟
• جرت مناشدات لمنظمات الصحة العالمية، التي نسّقت مع الاحتلال وأخلت مجموعة من الإصابات الحرجة كما إصابتي. اُحضرت أربع سيارات إسعاف فقط، وكل منها نقلت 3 حالات معاً، وعلى مدار ثلاثة أيام. وفي اليوم الثالث تمّ تحويلي مع طفليي إلى المشفى الأمريكي في رفح. أربعة أيام من العلاج وكان القرار بخروجنا نحن الثلاثة إلى خيمة في رفح، بعد تصنيفي حالة مستقرة. حظي كان جيداً بأني في الوقت نفسه حصلت على تحويل طبي إلى مصر، وهناك مكثت من شهر شباط فبراير/فبراير إلى شهر تمّوز/يوليو حين وصلنا إلى بيروت من خلال صندوق غسّان أبو ستة للأطفال.
○ وهل تتلقين العلاج المطلوب في بيروت؟
• بالتأكيد. عناية طبية كاملة. خضعنا لعدد من العمليات، أنا وطفلي محمد في تحسّن مستمر. احتاج لأربعة أشهر من الانتظار بحيث ينمو العظم، ومن ثمّ اخضع لعملية تركيب مفصل للركبة. ونلقى رعاية على الصعيدين النفسي والاجتماعي. نحن محتضنون بشكل كبير. أكثر ما يؤلم التوأم فقدان أثر والدهما، فبعد إخلاء الاحتلال للمشفى تمّ الكشف عن قبر جماعي قيل أنه يضمّ بين 400 و700 شهيد، تم تصوير إحدى الجثث وقالوا أنه زوجي، لكنني أرفض هذا الموضوع كلياً، وآمل أن يكون معتقلاً.
«القدس العربي»: