مؤاخذات بالإدارة المتعثرة لمواسم الحج (1/3)

مؤاخذات بالإدارة المتعثرة لمواسم الحج (1/3)
بقلم: عزالدين مصطفى جلولي/ كاتب جزائري
تغريب المدننة في مكة
العقل التي خطط لحركة المدننة في مكة المكرمة عقل ليبيرالي، والعيش فيها مرهق، وتستحيل الحياة في المدينة المقدسة بلا طاقة كهربائية. الأبراج الشاهقة على الطراز الغربي يتطاول بعضها على بعض، ولا تكاد ترى أثرا للعمارة الإسلامية، خلا الحرم المكي الشريف.
طابق المطوفين بعربات ذوي الحاجات الخاصة، نموذج سيئ لزحف الليبرالية داخل الحرم، الخصام بين العمال غير المصرح لهم وبين الشرطة يصل إلى حد الصراخ والعراك بالأيدي، والأثمان التي تطلب من المعاقين لقاء الطواف والسعي خيالية، ومنهم من يترك التطواف عجزا عن الدفع، ومنهم من يدفع مكرها وقلبه يشكو إلى الله ما يجد، تحوك في صدره حسرة أن يكون ما يرى سببا لآخر عهده بالبيت العتيق.
“طوالي، سيدا، على اليمين، على اليسار”، أهم المصطلحات المستخدمة لدى المنظمين الموكل إليهم توجيه الحجيج في الطرقات، طرقات بعضها يشبه بعضا، ولن تستطيع أن تألف مسالكها خلال شهر كامل تقضيه لأداء المناسك والزيارة، ولا يعرف شعابها الضيقة إلا الخريت من أهل المنطقة أو نظام تحديد المواقع عبر “الأنترنيت” فقط، وأكثر من يعمل في تنظيم الحجيج استجلب من جهات متفرقة من المملكة للحاجة إليهم في مواسم الحج، لا يدرك معظم هؤلاء المعالم التاريخية للمنطقة، بله شعاب مكة ومنى والمدينة المنورة، ويظل رجال الأمن المساكين يتقلبون في تفاصيل خارطة موزعة على نطاق واسع، انتهى موسم الحج ولا يزال أغلبهم تائها فيها.
ملوثات بيئية وحلول مقترحة
تسهم قارورات الماء البلاستيكية المستعملة لمرة واحدة والموزعة بيعا أو هبة على نطاق واسع في تلويث البيئة أيما تلويث، ولك أن تحسب عدد ما يستهلك الزائر الواحد منها يوميا في جو بلغت الحرارة فيه ٧٢ درجة مئوية على السطوح، وعالج من ضربة الشمس فيه الآلاف في إحصاءات رسمية. تلقى القارورات البلاستيكية المعبأة مسبقا بثلث اللتر على الأرض في نهاية المطاف إلا قليلا منها يوضع في الحاويات المخصصة لذلك، فتحسب وأنت تمشي في الطريق بمنى وغيرها أن الأرض فرشت بها، تسمعها تقرقع تحت قدميك، أو تتدحرج أمامك أو تصطدم بك من خلفك أو عن يمينك أو عن شمالك، تتقاذفها الأرجل من كل جانب بقصد وبغير قصد. ويظل عمال النظافة المساكين يلتقطون الملايين منها يوميا، في مشهد لا يليق بالزائر ولا بالمزار.
لذلك أشير إلى أن هنالك حلولا كثيرة لهذه المشكلة البيئية تتيحها المدنية الحديثة، منها أن تجرى المياه المبردة إلى كل مكان، وتوضع حنفيات للشرب ضغطا بكل ناحية تستقطب حجاجا، ولقد رأيت شيئا من هذا متوفرا في بعض الأماكن بمنى، ولكنها غير معممة بما يكفي ليتطهر البلد الأمين من هذه النفايات. كما أن دعوة الحجيج إلى اقتناء آنية نموذجية سهلة الحمل تعد خصيصا للشرب في هذه المناسبة العظيمة، بعد توعية الناس بفوائدها وجعلها في متناول أيديهم، والتي يمكن تعبئتها دوما من تلكم الحنفيات_ فكرة كفيلة بحل هذه المشكلة المزعجة إن شاء الله تعالى.
منكرات في طباع المنظمين
الحضور المكثف لرجال الأمن بزيهم المرقط يوحي للزائر بأن الحرمين الشريفين أصبحا بمثابة ثكنة عسكرية، ناهيكم عن الطباع الفظة لرجال الشرطة والقوات الخاصة في بكة حينما يتعاملون مع الحجاج المدنيين. تتلاشى “البروباغندا” المعممة على منصات التواصل الاجتماعي التي تروج لكياسة العساكر العاملين بالمسجد الحرام وحسن رفقهم بضيوف الرحمن، بما يصدمك في كل مكان تقريبا من غلظة في التعامل مع الناس داخل الحرم وخارجه، وملاسنات لا تكاد تنتهي هنا وهناك، لتصبح الدعاية الإعلامية أكاذيب مكتملة الأركان.
إن غياب تقاليد راسخة في استعمال الرموزية، مع وجود الحاجة إليها، في مكان تتحقق فيه المقاصد من استخدامها بامتياز، نظرا لارتباط ملياري مسلم بهذا المكان عقائديا إلى يوم الدين_ إن غياب تفكير رموزي متحضر، ليس فقط في إدارة جموع الحاجين، بل في أمن الطرقات وحركة المرور بعامة، يجعل الصوت البشري غير المهذب للحراس والمنظمين أداة مسيطرة في توجيه الحجيج، من دون أن أضيف إلى ذلك التغيير الدائم لخارطة الدخول إلى الحرم والخروج منه في كل صلاة تقريبا. “يا الله يا الله يا حاج، حجي حجي (مع التصفيق الشديد)، قوم يا حاج، لا توقف هون يا حاج، عم أحكي عربي، نو نو نو (للأعاجم)، ما بعرف بدك اتروح على الجهة التانية، ممنوع إدخال الأكل يا حاج، ممنوع النوم هون يا حاج، لا تدّخّل في ما لك فيه…” عبارات تسمعها في كل مكان مصحوبة بصوت مرتفع وحدة في النظر حتى يقضى الأمر للحارس بما يريد، صح رأيه أم لم يصح. ثم إنك لا ترى هؤلاء الحراس ومن على شاكلتهم مبتسمين إلا إذا تحدثوا في ما بينهم أو تحلقوا مثرثرين، وما أكثر ما تلحظ ذلك في أوقات دوامهم.
في اليوم الثالث من أيام التشريق، وبعد صلاة الظهر في المسجد الحرام، انصرف المنصرفون من الحجاج عن مواضع الصلاة كل يريد بغيته، وبقي آخرون معتكفين بين مصل وذاكر ومتكئ. وبعدما هدأت الجوارح وسكنت الأطراف، جاء المنفرون من رجال الأمن وعمال النظافة بجلبة غير معتادة وأصوات مرتفعة منكرة ليس فيها تعظيم لبيت الله الحرام، يزجرون الناس أن قوموا! قام الناس متثاقلين ساخطين، وحالهم يقول أتنظفون الآن؟ والأولى أن تنظفوا ضحى أو في الليل؟ المهم أنني انتظرت مع المنتظرين حتى يتم هؤلاء أعمالهم وتفتح الحواجز أمام الناس للعودة إلى مصلياتهم، فإذا بأحد الحراس وقد خلا المكان يقول للناس: “إن هذه التوسعة الثالثة، والتي بناها الملك عبد الله للأجر، ستغلق نهائيا اليوم لأنها لا تفتح إلا وقت الحج، وقد انتهى موسم الحج هذا العام!”. فقلت لمن يقول ذلك: كيف انتهى الموسم والناس لم تطف ولم تسع بعد؟ ثم لماذا هذا التضييق غير المبرر وقد حشرتم المصلين في مربعات ضيقة، ومربعات أخرى لا نراها إلا فارغة، يتجمع فيها العساكر على كراس مثرثرين أو عابثين بهواتفهم الجوالة، قولوا لنا اذهبوا إلى بلدانكم بصراحة أحسن”!
طباع المنظمين في الحرمين في التعامل الحجاج طباع المغاضبين لا طباع المرحبين، ولست أدري كيف تمكن الشيطان من حرفهم عن المعاملة الحسنة لضيوف الرحمن، فأصبحوا للتذكير بما يجب أن يكونوا عليه معاندين؟
تلكم هي الصورة الرديئة التي يطبعها هؤلاء في مخيال من جاء متعبدا، ستبقى طوال الدهر عالقة في ذهنه، تعكر صفو ما يتلقاه الحاج من رحمات من السماء تتنزل على بيته العظيم كل يوم. لا يبالي الحراس بالناس أساؤوا الظن فيهم أم أحسنوا، جعلوا منهم مادة للتندر أم أكبروهم، فالمعاملة التي لا يحسنون غيرها واحدة سواء أكان المنتهَر رجلا أم امرأة، عالما أم جاهلا، وليا صالحا أم مسلما عاديا، مجاهدا أم قاعدا. قال تعالى عن طباع الجاهليين في مثل هذا المقام: “وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”.
إنه لا يمنعن المتأذين من تأديب هؤلاء الحراس عن هذه الرعونة بما يليق إلا دعوة الباري عز وجل الحجاج الميامين إلى الصبر على الأذى والمشقة، ونهيه لهم عن الرفث والفسوق والجدال في الحج. وإلا فإن من الوفود رجالا لا يرضون على أنفسهم ولا على غيرهم هذا الهوان من أجلاف غلاظ موكل لهم تسيير الحرم في بلده الأمين. ولا يخفى عليك ما يبدي أكثر المتأذين بهؤلاء المنظمين من تأفف وتعليقات لاذعة في السر والعلانية بشتى لغات العالم استنكارا لهذه الخصال القبيحة، أن الطير في مكة أسعد حظا بأحكام الحرم، فهي لا تنفر ولا تصطاد ولا يعان على صيدها فيه، وتظل طوال النهار تطوف على زوار خيرين، يلقون إليها بأكياس الطعام، من كل ما لذ لها وطاب. ولكن، أما كان بالإمكان تطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود من هذه الصورة التي لا تليق بأول بيت وضع للناس، بيت يحتضن الركن الخامس من أركان الإسلام؟