ثقافة وفنون

«محاكمة كلب» للتونسي عبد الجبّار العش… ورمزية المسخ الحيواني

«محاكمة كلب» للتونسي عبد الجبّار العش… ورمزية المسخ الحيواني

سلوى السعداوي

استهلّ هذا الكتاب بعتبة إهداء لمجموعة من الأسماء المشهورة تونسيا وعربيّا، شعراء ومسرحيين وبوهميين (صاح القرمادي ومنور صمادح وجليلة بكّار وفاضل الجعايبي والمهدي بن نصيب وعلي شورّب ومحمد الماغوط وأمل دنقل). وبُني الكتاب على ثمانية فصول غير مرقمة صدّرت أربعة منها بعتبات نصية شعرية (منصف الوهايبي وسليم دولة ومحمد الصغير أولاد أحمد وآدم فتحي) وختم المؤلّف نصّه بحاشية تابع فيها المؤلف الحقيقيّ آراء بعض أصدقائه في المخطوط، وضمّنها شهادة المحامي المهمّة في قصة «عروب الفالت» المتخيّل، أو الحقيقي. وبعد الحاشية يأتي الرجاء بمساعدة المؤلّف الحقيقي عبد الجبار العش على جمع معلومات «تفيد عروب الفالت في بحثه عن الحقيقة».
من يتوغّل في غابة هذا النصّ ومسالكه الملتوية، سيكتشف تخييلات ذاتية وسيرا مقنعة وأخرى حقيقية، متداخلة ملتبسة، هي نصوص هجينة، فلا يمكن للقارئ العادي أن يفكّ بيسر أسرار كتابة «المحاكمة» ورمزية موضوعاتها، ودرامية أحداثها. نقرأ نصّ «امبراطورا» بلا مواثيق أجناسية ما قبلية حتى لا توجّه القراءة إلى تلقّ أحاديّ الجنس الأدبيّ، فتكون أي القراءة محدودة المعرفة بفنون الكتابة السردية. وأصل التخييل الذاتي العجائبيّ حكاية عرّوب الفالت البوهيميّ، وهي درامية الأحداث، متشظية الحبكة متناثرة الخيوط السردية، كان عروب يبحث عن حقيقة هوّيته، ولما اكتشفها أراد أن يقتل الكلب داخله، «ابن الحرام» الصفة التي سكنت لاوعيه وجعلته مجنونا متمردا حزينا، من وضع عائليّ مقرف لم يختره، وبعد أنطولوجي مشيّـئ، بل جعلته الصفة التحقيرية مستاء متوتّرا ثائرا على أوضاع اجتماعية وأخلاقية وسياسية فظيعة. فكلّف المتهم الثاني حمّاد الكولي وكنيته المورتو وهي شخصية سجينة سابقا متعودة على الإجرام بقتل شخص لا وجود له ولا اسم، ولكنه عروب الفالت نفسه «هو هو» يتنكّر ويمسخ ذاته كلبا ينبح تارة، ويعود إلى آدميته طورا، ويلعب دورين، بل أدوارا مختلفة في التخييل الذاتي العجائبي، فنقرأ محاكمة عجائبية تتعدد فيها الأصوات الحاضرة في فضاء المحكمة المتخيلة (محامي الفالت والمدعي العام والمورتو ومحاميه ورئيس الجلسة والطبيب البيطري) والغائبة في سيرة طفولة عروب الفالت، أو في رواية العائلة أو على سفينة «الحرّاقة» قبل الدخول إلى السجن. وتنساب الذات المزدوجة الإنسية والحيوانية في محاجّة مطوّلة، فإذا بنا في عوالم الكلاب، في النصوص الأدبية القديمة والفقهية والأساطير الإغريقية والفرعونية والروايات المعاصرة وفي الأمثال الشعبية والأفلام وعالم السياسيين والفنانين.
إنّها ذاكرة مرهقة تناصية صاخبة، تعجّ بالمعارف والقصص والمشاهد، وينوس عروب الفالت بين قصة الماضي، ورحلة البحث عن حقيقة نسبه وهويته الأولى قبل التبني، وسرد المحاكمة في الحاضر، من جهة، وإظهار الثقافة العالمة الواسعة لا بعوالم الكلاب فحسب، بل برموزها الدلالية المكثفة في حياته الذاتية، وحيوات الآخرين من جهة ثانية. إنها ذات هذيانية، هوامية واعية، بل فاقت حدود الوعي الذاتي، إلى درجة الجنون، والجنون إبداعي في التخييل الذاتي العجائبي. ومن هنا يفهم القارئ لماذا التجأ المؤلّف إلى عجائبية الذات المنشطرة المزدوجة، بل إلى الذوات المتعددة في أنا تبدو واحدة، ولماذا هذا المسخ الذي يذكّرنا برواية «التحوّل» لفرانز كافكا؟

إنّ «محاكمة كلب» محاكاة ساخرة شكلية، تمثلت في محاكاة صوت الكلب وحركاته، ومحاكاة رجال القانون، وهم يرافعون في فضاء المحاكم البشرية الواقعية، فتجلت كاريكاتيرية المشهد، بكسر منطق المحاكمات العادية وابتداع (وهذا من خصائص التخييل الذاتي) وضعية ساخرة مضحكة ودرامية في الآن نفسه، إنّها أسلبة كوميدية، لكنها موغلة في التكثيف الرمزي. وينفذ السّيري باحتيال إلى فضاء التخييل الذاتي، فيكون الفصل الخامس اعترافا مأساويا صادما بوضعية «اللقيط» «ابن الحرام» في مجتمع قاس لا يرحم يدين أخلاقيا المولود غير الشرعي بلا ذنب ارتكبه. لقد اختلق المؤلّف شخصية السجين الثاني الروائي، الذي لا وجود له إلا في خيال عروب الفالت، في الغرفة الانفرادية، إنه بوح ذاتي صادم يعري المستور من أسرار عائلية، فالأمّ معروفة بمغامراتها الجنسية، وهو يتظاهر بالتجاهل والهدوء، وداخله بركان يثور من الآلام والأحزان. ولا يتمثل إدخال السيري في حصر اهتمام المؤلف بقصة الطفولة، بل في التلميح إلى اهتمامات المؤلف الحقيقي عبد الجبار العش نفسه بالشعر والرواية وهوسه بكرة القدم، فكان إقحام السيريّ في فضاء التخييل الذاتي العجائبي مربكا للقارئ، لكنّه دالّ على تمكّن المؤلف من أدواته السردية وتنويعه الأجناسي، ووعيه بحوارية النصوص السردية المعاصرة وتعدّد الأصوات. ولن يكفّ الناقد المختصّ، أو غيره من القرّاء الموسوعيين والمختلفين إدراكا لعمق عوالم النصوص المتميّزة، من إعادة قراءة الروايات والتخييلات الذاتية الكبرى، هي نصوص لا تنسى ولا تتجاوز مواضيعها مهما تطوّرت الآداب العالمية. فلم يكتب العشّ «محاكمة كلب» طمعا في شهرة تبرز في حينها ثمّ تخبو، نسيانا أو تناسيا متعمدا، ولا طمعا في جائزة غير مستحقّة، إنه كتب «زمن سنوات الجمر» في عهد الديكتاتورية وبوليس بن علي. فمن كان يجرؤ أن يكتب في السياسة وعن السياسة صراحة أو تلميحا؟ من كان قادرا أن يعرّي عالم الكلاب السياسي «كلاب الحراسة» على حدّ توصيف بول نيزان وجان بول سارتر.

لم يخش المساءلة الدينية والسياسية والاجتماعية، وأنّى له ذلك وهو الجريء الشجاع الذي حاكم الآخر داخله في لاوعيه، وخارجه باقتدار؟ حاكم كل المؤسسات والأجهزة القمعية، وحاكم الصهيونية وأمريكا «خليلتها» وكلابهما، وعرّى أخطبوط الأحزاب اليمينية العنصرية المضطهدة للسود والمهاجرين، وفضح الشركات الإجرامية الكبرى المتسببة في الأمراض الخبيثة والعظام والحساسية.. تفنن في المحاكمة العالمة، فأفحم وبكّت، وانتشر النباح احتجاجا في العالم البشري كلّه غربا وشرقا، في باطن الإنسان وخارجه: إنّه نباح متأتّ من مآسي البشرية قاطبة، لا من تأثير آلام فرتر فقط. فانفلتت الكتابة من سردية قصة عجائبية، ومرثية ذات حزينة بأسلوب ساخر مفارق للخطابات العادية إلى كتابة قصص الآخرين. ألم تستشرف «محاكمة كلب» مأساة البشرية في زمن كورونا، الجائحة التي زعزعت اليقينيات وعرّت هشاشة الكائن البشري وتقرير مصيره الصحي، بل الوجودي؟ فلن نجد أفضل من هذا الشاهد لهذا النصّ المدهش، الصاعق لعصب الدماغ، هو نصّ لا يقرأ بهدوء ومتعة ساذجة، بل يتلقّى بوعي عميق ومتعة تأملية «إنّ ذاكرتكم ضعيفة فعلا، غير أنّكم لا تتوانون عن وصمنا بكلّ آفات العصر، تبرّؤون بوكرعين بوبرطلة وتلقون على وجوهنا نتائج تدمير خصوصيتنا وحضارتنا، فتحملون مرض السّيدا والحمّى الصّفراء على عاتق القرد الافريقيّ، ومرض النوم القاتل على ذبابة التسي تسي، ومرض الإيبولا على القردة العليا والظباء، والطّاعون على الجرذان، والكلب علينا، والانفلونزا المميتة وفيروس النّيل على الطّيور، وهندرا على الخيول، والجنون الوبائيّ على البقر، وفيروس نيب على الخنازير المستأنسة، ونحن الآن في انتظار أن تعلنوا أنّ سبب احتلال العراق وفلسطين وغزو فيتنام ولبنان والقائمة تطول، سببها البعوض! الحيوان دوما هو القربان، زاحفا أم طائرا أم عائما أم راكضا. تتّخذوننا وسيلة للهوكم ولتجاربكم المخبريّة، تلتجؤون إلينا لملء فراغ وجودكم ولتستمدّوا منّا القوّة، نحن وليمتكم وحرّاسكم، عيونكم وصهوتكم، نحن أداة لشذوذكم الجنسيّ ولعبة بين أيدي أطفالكم وصورة كاريكاتيريّة في تلفازكم… (محاكمة كلب، دار الجنوب، تونس).

كاتبة تونسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب