«إيمانويل».. الأيقونة الإباحية ابتلعت الفيلم
سليم البيك
هذا الاسم، إيمانويل، في أي سياق سُمع أو قرئ فرنسياً وسينمائياً، سيحيل أولاً إلى ما تحوّل إلى أيقونة شعبية، ثقافة بوب، في فرنسا، في أحد أكثر أشكال هذه الثقافة ابتذالاً، الإباحية أو الإيروسية.
لفهم أفضل للفيلم الجديد، «إيمانويل» للفرنسية أودري ديوان، هذا سرد سريع سيضع قراءة الفيلم في سياقها. أساس القصة كان رواية بالعنوان ذاته صدرت في فرنسا عام 1967. رواية إباحية لكاتبة بالاسم نفسه لا كتاب آخر لها، وبضمير المتكلم، فذيع أن الرواية سيرة ذاتية، سيتضح لاحقاً أن المؤلف زوجها. بعدها سيصدران مجلة بالعنوان ذاته، وكله متلف حول الإباحية الرخيصة والرابحة. أما القصة فهي ببساطة، وسطحية، للمغامرات الجنسية لامرأة فرنسية في هونغ كونغ.
هذا الرخص دخل سريعاً عالم الأفلام، فإلى ما سبق الفيلم الجديد، استخدم اسم إيمانويل والرواية، في 18 فيلماً سينمائياً وتلفزيونياً، ومسلسلاً، أول أفلامها كان الأكثر انتشاراً وحتى اليوم من بين الأكثر مشاهدة في فرنسا، وهو الصانع الفعلي للأيقونة. هو بالعنوان ذاته وصدر عام 1976 واستمر في صالات السينما 12 عاماً. وهو لمخرج مغمور وظّفه المنتِج، كما يظهر، وثائقيا معروضا حالياً على ARTE، لاستغلال موجة الحرية الجنسية اللاحقة للحراكات الاجتماعية التي بدأت في الستينيات وامتدت، فأمدّت من عمر الفيلم. اليوم، هي المرة الأولى التي يمكن أن تقارَب القصة بفنية وجدية معتبرَتين، لسببين أساسيين أولهما أنه لمخرجة نالت قبل أعوام جائزة الأسد الذهبي عن فيلم ممتاز هو «الحدث» وثانيهما أن الفيلم كان المفتتح للدورة الأخيرة من مهرجان سان سيباستيان السينمائي. أسباب إضافية يمكن أن تساعد هي، أن النسخة هذه من الفيلم أتت في عام تصاعد حملات وحالات «أنا أيضاً» (مي تو) في فرنسا، ما يمكن أن يمنح الفيلم فرصة المقاربة الواعية والجادة وغير الاستهلاكية الإباحية متقصدة الإثارة وحسب.
أسباب تكفي ليتوقع أحدنا فيلماً جاداً ينتشل القصة من ابتذال وذكورية متكرّسين، وأيقونة ثقافة شعبية فرنسية من فضاء الإثارة والرخص والاستهلاك السوفينيريّ. لكن يبدو أن ذلك التكريس كان أقوى من الفيلم الذي أتى باهتاً في أحداثه وتافهاً في استهلاله وختامه، ورتيباً في عمومه. لا يختلف الفيلم عن كم الأفلام السابقة له سوى بحرفية الصناعة، هو ليس فيلماً من الدرجة B، وليس فيلم صالات السينما ما بعد منتصف الليل، ولا هو فيلم إباحي تلفزيوني، بل هو فيلم تجاري عادي، صالح لكل الأعمار والصالات في فرنسا، لكن ليس لافتتاح مهرجان. كانت إباحيته خفيفة، بما تسمح به الصوابية السياسية النسوية. تخلى الفيلم عما ميز ما سبقه من إثارة إباحية، واستبدل بها صوابية أخلاقية ودروسا في النسوية، بتركيب افتعالي اضطراري، فلا كان الفيلم النسخة التاسعة عشرة من القصة ذاتها، ولا جاء كردٍّ نسويٍّ واعٍ لذاته، وجريءٍ في طرحه، ليفكّك كل السردية الذكورية في هذه الثقافة الشعبية المتراكمة، والسياحية. جاء الفيلم أخيراً عالقاً بين مقاربتين، بقدمٍ هنا وأخرى هناك، فكان الجانبان ناقصين.
المشاهد الحميمية كانت بلهاء، قوة المرأة في الفيلم وسيطرتها كانتا غير مقنعتين، خطٌّ خفيف من التشويق أوصل أخيراً إلى الفراغ. لا يفهم أحدنا ما الذي يمكن أن يخرج به من الفيلم، وهو على طوله، كان بمشاهد تحاول أن تودي إلى بعضها، أو تحيل إلى التالية، كأنها تريد أن تقول شيئاً وتتطلب منا الانتظار وعدم التسرع، إلى أن انتهى الفيلم فجأة بصرخة أورغازم إيمانويل، في مشهد ختامي سينافس بالضرورة نهايات النسخ السابقة من القصة، في ابتذالاتها.
أيقونية الفيلم الأول، السبعينياتي، امتدت ليعرض في صالات الشانزليزيه بترجمة إنكليزية فلا يتوه عنه السيّاح، فكان عامل جذب سياحي، للفكرة الابتذالية تجاه الجنسانية الفرنسية، والتحرر الجنسي بعد أعوام على ثورة مايو/أيار 68، صار الفيلم تمثيلاً آخر لفرنسا كأيقونات علّاقة مفاتيح بشكل برج إيفل، ومغانط الباغيت وزجاجة النبيذ الأحمر.
قاربَ الفيلمُ الجديد عوالمَ إيمانويل الأسطورية بحذر، لكنه انجرّ فيها. ابتلعت الثقافةُ الشعبية الإباحية فيلمَ «إيمانويل» بنسخة حملات «أنا أيضاً». خرج أخيراً، لا هو هنا ولا هو هناك.
كاتب فلسطيني سوري