في الكتابة وعنك
إبراهيم الزيدي
سأذهب إلى أقصى الخيال، ومنتهاه، وأكتب عن بلاد فيها نساء وكهرباء في آن واحد! ما الكتابة إن لم تكن مواجهة الواقع بما في الخيال من احتمالات وتوقعات وأحلام وفرضيات! أليست الكتابة هي ثقب في جدار عزلتنا، نطل منه على ذاتنا والآخرين؟
نطلّ منه على ذاتنا، لأننا هناك، يمكننا أن نجد ما نبحث عنه، وما لا نبحث عنه أيضا، وهذا هو الأهم، لأن ما نبحث عنه هو الظاهر من احتياجاتنا كبشر، في العمق تترسب الاحتياجات الحقيقية، الاحتياجات الإنسانية، في العمق تمكث الأسئلة التي لم نتجرأ على طرحها، يقول كارل يونغ: «من ينظر إلى خارجه يحلم، ومن ينظر إلى داخله يستيقظ».
وكلنا في حاجة هذه اليقظة، وإلا بقي بريد الحواس محملا برسائل لا تحتمل التأويل.
إن محاولة الإنسان الهروب من أحلامه، والنجاة منها، هي محض افتراء آنيّ على الذات، تأجيل المعركة مع الواقع، قد تتحول مع الوقت إلى حرب باردة، ولكنها لن تطول. تتجلى معطيات تلك المعارك في الكتابة الأدبية على وجه الخصوص، في كتابها «أعمال شغف» تقول الكاتبة ماري القصيفي: «ثمة هواء خريفي يراقص قميص نومي، أظنه أنت، وقد أتيت متنكرا».
من دون تلك المجازات التي ترجم في الغيب علما، تصبح النصوص كالأزقة الضيقة. فعلاقة الكلمة بالمعنى، والصورة بالفكرة، هي علاقات بنائية تقتضي حساسية خاصة، حساسية تجعل الصبح هنا، ينتظر ابتسامتك هناك. لا أريد أن أنظر إلى المسألة بعيون الآخرين، تعجبني مقولة الإسباني خابيير سانتيسو «الكتابةُ وسيلةٌ لفعل شيء ضدّ النسيان» ولكن لا أظنها نهائية، في كل يوم يطالعنا كاتب بوجهة نظر مغايرة، والأهم ليست تلك المقولات، ووجهات النظر، الأهم «أن تكتب شيئا يستحق القراءة» كما يقول بنيامين فرانكلين.
في عام 1960 زرع أبي في رحم أمي شرارة لحريق محتمل، مذ ذاك وكل أهلي يحاولون إخمادها، مذ ذاك وأنا أكتب، وأمحو، أو أمزق ما كتبت، إلى أن امتلأت سلة المهملات، بأسئلة طفولتي المبكرة، علما أنني كنت أبحث عن شيء بسيط للغاية، كنت أبحث عن علامات ترقيم للغة التي أحببتك بها ليس إلا.
ما الذي يحدث لو أن الحب بقي في تعريفه الساذج، فأنا ما زلت أحّن لترديد ذلك الشعار الذي فرّقنا: «أمة عربية واحدة» وأعلّق على جدار أحلام اليقظة صورة مارلين مونرو، وأحلم بتلك الحياة التي تشع من ابتسامتها. منذ خمسين حزنا وأنا أمشي في دروب اليأس الوطنيّ بحثا عن ذلك الحب، ولغته التي بقيت من دون علامات ترقيم.
وحين استسلمت للضياع، تعثَرتْ بخرابي امرأةٌ « غلبَ الماء على الطين في تكوينها» فاستيقظتْ كل المصابيح النائمة في دروب العمر، وبكيتُ.
نبكي فرحا، نبكي حزنا، الفرق ليس في طعم الدموع، بل في أسبابها. كذلك الكتابة، من حيث هي رهينة دوافعها. رهينة رهانات الكاتب على قدرة الكلمة على حمل مُثقِلات خياله، وقد لخص ذلك أبو النواس بقوله:
غَيرَ أَنّي قائِلٌ ما أَتاني / مِن ظُنوني مُكَذِبٌ لِلعِيانِ
آخِذٌ نَفسي بِتَأليفِ شَيءٍ / واحِدٍ في اللَفظِ شَتّى المَعاني
كاتب سوري