مقالات

الرؤية النقدية بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

الرؤية النقدية
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ
نلاحظ بوضوح أن الفرد العربي يتمتع برؤيا نقدية (دعنا نعبر عنها هكذا)، سريع الغضب، وسريع الرضا، عفوي بدرجة كبيرة، لذلك يطلق أحكاماً الكثير منها انفعالية، الجانب العقلي المتريث فيها ضئيل، يميل للمخالفة أكثر من المسايرة، فردي بدرجة كبيرة، يميل للمبالغة، يرى الأمور بظواهرها لا بنتائجها. يزج نفسه في موضوعات ليست من اختصاصه ويجادل فيما لا يعرف.
ولكن هذه الصفات الشخصية تقابلها: المثقف العراقي المعروف في الأوساط العربية بغزارة علمه وثقل معارفه، وخزينه الفكري ثري. العراقي طيب القلب، ولكنه إذا أكتشف أن أحدا يغشه أو يخونه، سيكون رد فعله ليس سهلاً، العراقي كريم جداً ولكنه إذا شعر أن أحداً يحاول ابتزازه سيرفض ولرفضه أشكال وأساليب. العراقي شجاع وشهم، ولكنه حين يشاهد الغدر سيقف موقفا حاداً .. ولجميع هذه الصفات أسبابها المادية والمعنوية. والتاريخية، وهي اليوم معروفة في البلاد العربية والأوربية على حد السواء.
ذات يوم أخبرني رئيس قسم الطلبة في جامعة لايبزغ في ألمانيا، أن الجامعة تضم طلاباً من 182 قومية وبلد. ولدى مكتب الطلبة الأجانب موظفون مختصون، استطاعوا بمرور الوقت تشخيص حالات الطلبة بدقة تقارب الكمال. سواء بالمستوى الدراسي والنجاح، أم بالتصرفات الشخصية، وبتفاصيل دقيقة استغربت من دقتها، فهم يعرفون مثلاً أن الطلاب من البلد (س) يميلون للسكر والعربدة، ومن (ص) للمشاجرة، ومن (ع) للمخالفة، والطلاب من (ق) لا يعتبرون من الطلبة المجتهدين ..وهكذا بدقة من خلال إحصاءات سنوية وتتراكم الحصيلة لعشرين أو ثلاثين سنة، وبذلك تكون النتائج تامة الدقة.
رباط السالفة ……
أقرأ بين حين وآخر من كتاب الفيس بوك وحتى بعض المحترفين، وأنا أعلم أن هناك صنف من الكتاب وحتى الشعراء ممن يحبون أن يصنفون ” الأدباء الغاضبون ” وهناك من يهوى إطلاق الشتائم في كتاباته، وحتى في حياته الخاصة هو بذئ اللسان. وأعرف شاعراً عربياً مشهوراً كان يخادن من هم في المناصب العليا ويتملقهم بشكل مذل، ولكنه في شعره أسد هصور ..وأعرف مرة أنه وشى بشخص للسلطات فتسبب باعتقاله أسابيع طويلة ولم يفلت إلا بعد دفع مبلغاً وقدره ….! وهذا الصنف من الكتاب أو من يحاولون الكتابة أقرب للمرضى النفسيين منهم لشيئ آخر … ولكن …!
ولكن هناك من الكتاب من يدس ويعس عامداً متعمداً بقصد الإساءة .. وبعضهم يبدي الغيرة والحرص على الأمة ويأخذ راحته بالسب والشتم، ولا يرى إلا النقائص، والسلبيات وليس مكان في العالم ليس فيه سلبيات ونقائص، وهنا يبدو كالمثل البغدادي ” بالشقه وغل أيدك “. نحن أكثر أمة متخلفة في العالم .. نحن أفقر شعوب، وأكثرها جهلاً، نحن مقر الأمية في العالم، نحن جياع، وبعضهم يتجاوز أكثر في ظلمه ليقول نحن يعتدي علينا الرايح والجاي …بل وتجرأ أحدهم وقال نحن في قمة الدول التي فيها دعارة ..؟ .. فهل هذا صحيح … مع العلم أني أقرأ إحصائيات دولية عن أكثر 30 أو أربعين دولة فيها دعارة من بينها قطر عربي .وعن الظواهر السلبية بما في ذلك فقراء مشردون ينامون على الأرصفة في دول صناعية ثرية جداً ….!
يشارك في الهجمة علينا، جيش من الصحفيين هواة ومحترفين، وجيش عرمرم من رجال المخابرات، وأدباء وشعراء ممن يؤجرون رؤوسهم وأقلامهم، وآخرون يسعدهم أن يؤشرون قلنا على ملاك “الأدباء الغاضبون” فيكتبون القصائد بالقطعة يشتمون أوطانهم وشعوبهم، حتى انتشرت موضة أدب الشتيمة، يقبضون ثمن غضبهم” بالدولار”، يحاولون إقناعنا بأننا أمة مهزومة. بل وقد أدخلوها في رؤوس البعض منا للأسف، مع أن امبراطوريات عديدة انتهت عندنا، وبعضها صار من غابر التاريخ. ونحن شعب يعرف بأننا طيبو القلب لدرجة اللعنة، حتى أن الطيب الذكر لينين كتب مرة بما معناه ” أن شعوب الشرق معروفة بأدبها وهو سر بلائها “.
وقرأت أن المرحلة السابقة للثورة الفرنسية، شهدت تعسفا وظلماً، تراكم حتى أوصل الغليان الشعبي للثورة الفرنسية التي كان في مراحلها الابتدائية دموية، وكان الناس يدخرون غضبهم بأساليب لا تخلو من ندرة وطرافة، وكانت سيدة تعيش في الريف، تحفر أسماء الطغاة على جذع سنديانة، (لاحظ هذه إلى جانب شواهد كثيرة، تؤكد أن حقد النساء مخيف ..!) وسيدة فرنسية أخرى، كانت تحيك أسماء الطغاة كي لا تنساهم، وأنا كتبت مرة قائمة عن كبار الشتامين، تراجعت عن نشرها، ولكني أسمع أن هناك من يكتب أسماء هؤلاء ويحتفظ بها للذكرى ..!
لم يبلغ عمري القرن بعد، فأنا من مواليد عام 1944، ونحن درسنا وتعلمنا أن عصر النهضة العربي الجديد ابتدأ مع بداية القرن العشرين، ولم تكن هناك دولة عربية واحدة مستقلة، بل لم تكن هناك حركات سياسية. وبعد الحرب العالمية الأولى دخل عدد من الأقطار العربية مرحلة الانتداب، واستمرت حتى الثلاثينات والاربعينات (بعد الحرب العالمية الثانية)، ومعظم أقطارنا كانت تدار استعمارياً بواسطة ضباط استخبارات، كالبلدان العربية في أفريقيا، وأقطار العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، أما شبه الجزيرة العربية، فكانت مستعمرات عدا اليمن والمملكة العربية السعودية (نجد والحجاز).
استغرقت المرحلة نحو 30 عاماً (الستينات) حتى تحرر القطر الجزائري، وجنوب اليمن، وعمان وسائر أقطار الخليج. ولم يكن عدوان حزيران 1967 مصادفة في توقيته، صحيح أن التوسع هو هدف الكيان الصهيوني، ولكنه هدف يتوافق ولا يتناقض مع الدوائر التي تستهدف النهوض، لذلك كان العدوان / المؤامرة ينطوي على جوهر أساسي، وهو التصدي للنهضة العربية بالتوجهات الجدية والمؤشرات التي كانت تثير القلق في الدوائر التي يهمها عرقلة النهوض، إذ كانت تدور في بلدان عربية عديدة تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية، تتمثل في توظيف القدرات والطاقات في عمليات تنمية كانت تدور بدرجة معقولة من النجاح، في: الجمهورية العربية المتحدة (مصر)، الجمهورية العربية السورية، الجمهورية العراقية، الجمهورية الجزائرية.
هل نجحت المرحلة الأولى من الانتداب وحتى الاستقلال والتي استغرقت نحو 35 عاماً ..؟
في إطار حسابات التحولات الكبيرة، لا يمكن قياس درجة الحسم ببضعة سنوات، وعلى هذا فالمعطيات المادية تشير أن بلداننا قطعت شوطاً مهماً خلال هذه الحقبة القصيرة. (رغم وجود الألغام الشديدة الانفجار، ووفرة معرقلات التنمية) ومن خلال دراستنا السياسية والاقتصادية لأحوال الشعوب والبلدان في أوربا وأميركا اللاتينية وآسيا، يعتبر تطور سكان العراق لم يتجاوز عام 1921 أكثر من (2,849,282)، والعاصمة بغداد لم تكن سوى قرية كبيرة لا يوجد فيها أبسط الخدمات والحاجات الأساسية للسكن، كالماء والكهرباء والمؤسسات العلاجية كانت بسيطة. بعدد سكان لا يتجاوز (250,000) نسمة ..!
اليوم تواجه الأمة اعتى هجوم يتمثل بأطماع ونوايا القوى المساهمة فيه، وقد تجمعت وحشدت قواها بنسب متفاوتة، وهناك من الدول العظمى من لا يساهم بقواه، ولكنه يصمت ويقف على الحياد، وقوى أخرى تساهم بإطار معين، ولكن القوى الغربية تضع ثقلها بأسره في معركة لا هوادة فيها، والأمة لا تستخدم كل قواها، وتدافع بالجزء القليل جداً، ذلك أن المعسكر المعادي، حرص أن يتسلل إلى جبهتها ويعمل تخريباً وحصاراً وقتلاً، وتدميراً لمكتسبات، وأخلاقيات وتقاليد تميزت بها، ولم يكن العمل عشوائياً في أي من مراحله المتعدد الصفحات، بل هو مخطط بدقة بالغة وبأساليب غير معهودة.
الأمة قدمت خسائر جسيمة، وستواصل التقدم رغم المعوقات والخسائر، ولكن لكل شيئ نهاية، وسوف تجتاز هذا الحرب الشاملة، التي تشن عليها، حتى بأكثر الأساليب خسة، وللأسف يساعدها بعض المتساقطين من أبناءها. وستستعيد إرادتها الأمة بأقوى مما كانت، وتحقيق الأمنيات والأهداف ستكون أقرب من ذي قبل. والمعركة اليوم قائمة على المصالح السياسية والتخادم، ولكن المصالح السياسية ليست ثابتة، بل هي متغيرة، والتوازنات الدولية قد تغيرت خلال القرن العشرين أكثر من مرة، وهي خاضعة للتغير بأستمرار، والأمة وشعبنا راسخ في أرضه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب