كتب

أبو يعرب المرزوقي: صدام الحضارات منطق الطبيعة

أبو يعرب المرزوقي: صدام الحضارات منطق الطبيعة

سعدون يخلف

إن العلاقة بين الإسلام والغرب، علاقة متوترة يسودها الشك والتردد، منذ اللقاء الأول بينهما، فالغرب يرى في الإسلام عدواً جاء ليقوّض سلطته الدينية، وينافسه على سلطته السياسية والعسكرية؛ والإسلام، في المقابل، برؤيته الشاملة للوجود والكون، كما حددتها الفلسفة القرآنية، يرى أن وظيفته الأساسية هي إنقاذ البشرية من التيه والضلال والعمى، بما في ذلك الغرب، لأن رسالته، كما هو معلوم، رسالة عامة إلى البشرية كافة، ما يؤدي، والحال هذه، إلى التدافع بين الرؤى المختلفة.
إنّ نظرة الإسلام إلى الآخر، لم تكن نظرة عداء «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»، وعلاقته معه لم تكن صدامية، البقاء فيها للأقوى، بل هي تدافعية «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا»، فالتدافع، إذن، سنة كونية، لم تكن غايته السيطرة على الآخر، والعبث بقيمه، ونهب خيراته، إنما لنفي الفساد بالصلاح، ونفي الشر بالخير، ونفي الظلم بالعدل، ونفي الحرب بالحرب (الحرب دفاع).. وهكذا. خلافاً لذلك، يرى الغرب في الآخر عدواً، وفي التنوع صراعاً، وفي الاختلاف بين الحضارات تنافساً وصداماً، وعلى الرغم من أن الغرب بعد عصر الأنوار، كما يطلق عليه، رافع لأجل رسالة عالمية، تحترم الإنسان، وتقدّس حياته، وتدافع عن حقوقه، بغض النظر عن جنسه وعرقه ولونه، إلا أن الوقائع والمواقف تفضح الأقوال والأحوال، ذلك أن الحضارة الغربية، للأسف الشديد، لم تتغير مع مرور الزمن، إذ بقيت وفية لتقاليدها وأفكارها العنصرية، التي وضعها الآباء المؤسسون، فتقديس الرجل الآري الأبيض، والتقليل من شأن الآخرين، على اختلافهم، ما زال يسرى في عروق هذه الحضارة، وأن الهدف الذي تسعى إليه، في الأخير، هو السيطرة والهيمنة، حتى لو كان الثمن إبادة هذا الآخر، كما جرى في العديد من محطات التاريخ الإنساني، ويجري الآن في غزة.

إعادة تشكيل النظام العالمي

ولمواصلة هذا الطرح يأتي الأمريكي صموئيل هنتنغتون (1927-2008) في العقد الأخير من القرن الماضي، ليرافع لفكرة الصدام بين الحضارات في كتابه «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي»، في وقت كانت البشرية على موعد مع العصر الجديد، بعد نهاية الحرب الباردة، وانتصار النموذج الليبرالي الرأسمالي، إذ ادّعى الغرب أن التاريخ وصل إلى نقطة النهاية، التي سينعم فيها العالم بالسلام العالمي، والسعادة الإنسانية، شريطة الانضمام إلى القافلة التي يقودها الرجل الأمريكي، خاتم البشر، المغرور بنفسه، والمنتشي بانتصاره، ومن يقاوم، فإن لعنات السيد الأمريكي ستصيبه، وأن يده الباطشة ستنال منه، فليس هناك مجال للاختيار، إما العيش في حضارة البرابرة في ما قبل نهاية التاريخ، وذلك ما لا يسمح به السيد، ولا يقبله مطلقاً، بعد هذه اللحظة، وإما العيش في عصره، وبالتالي الدخول إلى الفردوس الموعود.
كانت هذه نظرة الفيلسوف فرانسيس فوكوياما (1952)، من خلال كتابه الذائع الصيت «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، نظرة، كما يبدو، موغلة في التفاؤل، ومنتشية بسكرة الانتصار على الشيوعية، لكن هنتنغتون لم يقبل هذه الأطروحة، معلناً بصراحة، ودون مواربة أو تلاعب بالألفاظ، أن الصراع وإن انتهى أيديولوجياً بين الرأسمالية والشيوعية، فليس معناه أن حضارة الغرب هي الحضارة الوحيدة، وأن مسببات الصراع قد انتفت تماماً، بل هناك حضارات منافسة، ومسببات أخرى، لا تقل خطورة، موجبة للصراع، من بينها الاختلاف الثقافي، أو الديني، أو الإثني، وهذه الحضارات المنافسة، لا تقبل قيم الغرب ولا ثقافته، وهي متميزة ومختلفة عنه في قيمها وثقافتها، يحددها في سبعٍ أو في ثماني حضارات، ولعل أبرزها، كما يقول، الحضارة الإسلامية والكونفوشيوسية الصينية.
وبعد، أحاول في هذه المقالة أن أقدم نظرة المفكر العربي أبي يعرب المرزوقي (1947) حول أطروحة صدام الحضارات، والمرزوقي هو، في الحقيقة، مدرسة فكرية، يملك مشروعاً فكرياً متكاملا، ورؤية ثاقبة لكي يخرج العرب من أزمتهم الراهنة، وهي رؤية متصالحة مع الذات العربية والإسلامية، ضاربة في جذور الأصالة (ابن تيمية، الغزالي، وابن خلدون)، ومتسقة مع أفكار العصر، لأنه دارس للفلسفة الغربية، وناقد لها. يتميز أسلوبه بالصعوبة والتعقيد، أسلوب يحتاج إلى جهد كبير لفك رموزه، وإلى إعمال العقل لحل ألغازه، فضلا عن ذلك، له مقدرة فائقة على التحليل الاستشرافي، ويُستشف ذلك، خاصة، من خلال متابعة مقالاته حول «الربيع العربي»، أو معركة «طوفان الأقصى». تنبغي الإشارة هنا إلى أنني لم أجد بحثاً مستقلا للأستاذ، عالج فيه أطروحة صدام الحضارات، تحليلا أو نقداً، وما أكتبه هنا هو فهوم أو استنتاجات خاصة، توصلت إليها من خلال قراءتي لبعض كتبه ومقالاته.

الإسلام والغرب أصل الصدام

لا شك أن الإسلام يختلف عن الغرب في رؤيته للإله والإنسان والكون، كما أن منظومته القيمية مختلفة تماماً عن قيم الغرب، ولأن الاختلاف بهذه الدرجة، فإن أي محاولة لإيجاد مساحة للتوفيق أو التقارب بينهما، ستؤدي، لا محالة، إلى الفشل، ناهيك عن أنها ستقوّض أركان أي رؤية وهدمها، هذا الاختلاف في الرؤية يتولد عنه الصدام بين الحضارات، الذي يصفه المرزوقي بكونه منطق الطبيعة، «أي أن البشر يعودون فيها إلى الحيوانية الخالصة»، حيث البقاء فيها للأقوى، ولا شك أن اختلاف الرؤية يؤدي إلى اختلاف في التفسير، وما يترتب عنه من آثار في الواقع، وللتمثيل على ذلك نذكر أن منهج الإسلام في الحرية هو الوسط، كما يدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء»، وبالموازاة، يتنازع الغرب نوعان من الطغيان، فهو «بين طغيان الحرية الخلقية (وتعبيرها الرمزي هو الفوضى الشاملة ذات التصور الديني البدائي، ممثلة بثورة شباب الغرب في الستينيات)، وطغيان الحرية الطبيعية (وتعبيرها المادي هو النظام الشمولي ذو التصور العقلي البدائي ممثلا بالليبرالية الجديدة)»، ولما كانت الرؤية الوسطية المتوازنة للإسلام مناقضة للرؤية المتطرفة للغرب، فمن الصعوبة إحداث توافق بينهما، فتكون النتيجة، في نهاية الأمر، هي الصدام، كما أن الإسلام يدعو بصراحة، إلى التحرر من الطغيان المادي، ولن يتم التحرر منه، حسب المرزوقي، إلا بعد تحرير العالم من سلطان الولايات المتحدة الأمريكية المادي، كما أنه يدعو إلى التحرر من الطغيان الروحي، ولا يتم ذلك إلا بعد تحرير العالم من سلطان إسرائيل الروحي، وأي عملية تحرير سيتولد عنها، بطبيعة الحال، الصدام بين رؤيتين أو أكثر. وعليه، فإن الصراع بين الإسلام والغرب هو صراع بين القيم، بين قيم تكرّم الإنسان، مهما كان جنسه وعرقه ولونه، وتدعو إلى التعارف بين الشعوب، والتعايش بينها، وقيم تقدس الإنسان الأبيض، وتعلي من قيمته، وتحتقر الآخرين، وتسعى إلى إبادتهم.
على صعيد آخر، يبدو أن المرزوقي يتفق مع هنتنغتون بأن العالم الإسلامي يعيش في حالة صدام بين مكوناته «حدود الدم»، والسبب في ذلك يعود إلى أن الأمة ما زالت تعيش تحت وقع النزعات القومية والقطرية، التي أفرزها الاستعمار عندما مزق جغرافيته، وأعاد تشكيل خرائطه، يؤكد ذلك قائلا «إن الأمة لم تتحرر من النزعات القومية التي هدمت وحدتها، ومن النزعات القطرية التي فتتت وحدتها الجغرافية». غير أن لهذا الصدام الحضاري العالمي، حسب المرزوقي، فضائل، فقد يؤدي، بصورة أو بأخرى، إلى تمزيق خرائط التقسيم، ومن ثم، تكوين كيانات وحدوية، حسب القرب الجغرافي والبعد المذهبي، بحيث تكون مقدمة للوحدة الكبرى، يشير إلى ذلك بالقول: «تكوين جماعتين إسلاميتين كبريين تعترف بالأقليات المتبادلة، حسب القرب والبعد المذهبي إلى حين الوصول إلى مرحلة البناء الشامل بمنطق المصالح والتكامل الاقتصادي».

حرب الغرب على الإسلام

لم يأخذ الغرب منذ تفوقه استراحة محارب، ولو لفترة قصيرة، في حربه ضد الإسلام، فهو من حرب إلى أخرى، ولم تكن هذه الحرب، كما يبدو، بسبب قوة الإسلام، بل حتى، وهو يعيش في أحلك أيامه، تتنازعه الصراعات بين أممه، وانهكته الخلافات بين مكوناته، ولعل ذلك يرجع، أساساً، إلى ضعف المسلمين، الذين مزق الاستعمار جغرافيتهم، وشتت الاستبداد تاريخهم، فكانت النتيجة استباحة بلدانهم من طرف الأعداء، من الغرب أو من الشرق. إن سبب حرب الغرب على الإسلام، وفقاً للمرزوقي، هو أن الغرب لم يستطع إخضاع الإسلام لإرادته، ولم يستطع احتواء تعاليمه وتشريعاته، على الرغم من محاولاته المتكررة، إذ إنه قاومه بشدة، وأفشل مخططاته ومشاريعه بقوة، «كان الغرب يحارب المسلمين، لأنهم لم يستسلموا لإرادته أكثر من عشرة قرون، بدأ فيها تفوقه عليهم في تنظيم أمره لما شرعوا هم في النكوص إلى فوضى ما تقدم على ثورتهم الإسلامية»، موضحاً أن صمود الإسلام ومقاومته، جعلت من نبوءة هيغل عن خروج الإسلام من التاريخ، ونهاية دوره، مجرد هوى راود هذا الفيلسوف في لحظة غرور، «وبعدما ثبت الصمود الإسلامي وكذب نبوءة هيغل في فلسفة التاريخ، إذ قضى بأن الإسلام خرج من التاريخ، فتبين أنه عاد إليه بعنفوان لا مرد له، وإن لم يؤت أكله بعد، رغم سقوط آخر خلافة إسلامية». لكن، السؤال الذي يطرح هنا هو: لماذا الحرب على الإسلام، على الرغم من ضعفه وانكساره؟
إن الغرب يعرف قدرة الإسلام على النهوض من جديد، وإن خروجه من التاريخ أو نكوصه وتراجعه ليس معناه نهايته، كما تنبأ بذلك هيغل، إنما هو كبوة سرعان ما ينهض منها مرة أخرى، إذا توافرت شروط النهوض، وتحققت متطلبات العودة. ولا شك أن لهذا النكوص أسباباً عديدة، منها الاستعمار الذي أعاد تشكيل خرائط جغرافية عالم الإسلام، من أجل أن يحول ذلك دون تحقيق الوحدة؛ والاستبداد الذي شتت تاريخه، بحيث يحول ذلك دون إمكانية لتحرر شعوبه، ومن ثم، يصطدم الاستئناف بهذين المعوّقين، وتكون النتيجة، في نهاية المطاف، إيقاف استئنافه أو تأخيره، وعليه، فإن قدرة الإسلام على استئناف دوره هو ما يخوّف الغرب، ويزيد من عنفه ضد شعوبه، وحتى ينجح الغرب في ذلك عمد إلى تنفيذ استراتيجية متمثلة في تفتيت جغرافية الإسلام، وتشتيت تاريخه، وتشويه مقاومته بشيطنتها واختراقها، وتخويف الآخرين منه (الإسلاموفوبيا)، بالإضافة إلى ازدواجية المعايير في التعامل مع قضاياه، ومن المفارقات العجيبة، أنه مع صخب الحرب على الإسلام، ينبعث صوت يدعو إلى الحوار معه، تحت شعار حوار الحضارات.

حوار الحضارات: هل هو ممكن؟

يرفض المرزوقي حوار الحضارات، واصفاً أغلب الدعوات إليه من طرف الغرب بازدواج المعايير والنفاق، كما أنه يقلل من جدوى هذا الحوار من طرف من يتكلم باسم الإسلام، واصفاً إياه بأنه أكثر من الغرب اتصافاً بالمعايير المزدوجة، معللا ذلك أن سلوكه يعادي الإسلام وقيمه، وإن كانت ازدواجية الغرب لا تخلو من فائدة، إذ تفضح قيمه، وتفشل دعايته، بينما ازدواجية أهل الإسلام تجعل الحوار خداعاً للنفس، زيادة على ذلك، ما الحوار الذي نريده؟ أهو الحوار الذي نكون فيه مجرد مدافعين عن أنفسنا من التهم الموجهة ضدنا من قبيل الإرهاب والتطرف؟ أم هو الحوار الذي يكون «بدايته التعايش، وغايته التعارف».
على هذا الأساس، يكون مصير أي حوار مع الغرب الفشل، لأن للحوار شروطاً ينبغي توافرها حتى يؤتي أكله، وهي، للأسف، منعدمة في الغرب، شرط التخلق في حضارته، وغائبة في حالتنا، كشروط الندية وشروط الحوار، وعدم جدارة المسلمين اليوم لتمثيل حضارة الإسلام، لأنهم، في الحقيقة، يمثلون مظاهر انحطاطها وتراجعها، وإذا أردوا أن يكون لهم شأن حقاً، عليهم أن يستعيدوا «شروط الدور»، وذلك بتحرير أنفسهم من الأيديولوجيات المريضة، وتحرير تاريخهم من الصراعات الطائفية، بالإضافة إلى أن الغاية من أي حوار هي «قبول الحق من الآخر»، وهذا ما لا يتحقق مع الغرب، لأن رضاه بما توصل إليه الحوار، معناه هدم الدعائم والأركان التي تقوم عليها حضارته.
وفي النتيجة، يخلص المرزوقي إلى أن الحوار دون توافر شروطه ما هو، في الحقيقة، إلا خداع للنفس، وهروب من «الحوار الفعلي في الحضارات»، الساعي إلى تجاوز العوائق المؤدية إلى تأجيل اللقاء الندي مع الحضارات الأخرى، لأن الغاية من هذه الدعوات «ليست من أجل حوار الحضارات بل من أجل إيقاف التاريخ».

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب