ثقافة وفنون

«داهومي»… تصفية حساب سينمائية مع الاستعمار

«داهومي»… تصفية حساب سينمائية مع الاستعمار

سليم البيك

في عام 2021، انتشلت السلطات الفرنسية آثارا من متحف «كي برانلي» في باريس، لتوضيبها وإعادتها إلى بلادها الأصلية، بعد 130 عاماً من السطو والاستيلاء عليها. 29 من كنوز مملكة داهومي عادت إلى ما صارت اليوم جمهورية بينين، غربيّ القارة الافريقية.
لا يشكل هذا الرقم الصغير سوى فئة من آلاف الآثار التي نهبها المستعمرون الفرنسيون مع غزو المنطقة عام 1892، وهي بطبيعة الحال ضمن فئات واسعة وشاسعة مما نهبه هؤلاء من بلاد وثقافات افريقية وآسيوية، بوصفها قوة استعمار طاغية تستحلّ أملاك المستضعَفين، المادية والمعنوية.
هذا العام، تعدت الحقائق أعلاه زوايا أخبار تفصيلية أو منوعة هنا وهناك، لتكون موضوع فيلم وثائقي للفرنسية من أصل سنغالي ماتي ديوب، ويدخل الوثائقي الممتد لساعة فقط، المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي هذا العام، وينال جائزة دبّه الذهبي، لتنال بذلك هذه الواقعة، أو الحقائق أعلاه، مساحات ما كانت ستنالها من دون الوثائقي والجائزة.
الفيلم «داهومي» (Dahomey)، غير تقليدي في وثائقيته، رغم غنى الموضوع وإغرائه في تحويل العمل إلى وثائقي تلفزيوني يعود إلى التاريخ، بمشاهد تمثيلية ربما وأرشيفية، وبمقابلات مع مختصين وباحثين، ليكون فيلماً طويلاً أو بحلقات، له غاية أولى هو المعلومة والخبر. لم يكن هذا حال فيلمنا.
اتخذت ماتي ديوب منحى الفن، لا المعلومة، في فيلم أراد لموضوعه أن يكون طازجاً، راهناً لا تاريخاً، فنقّلت المصوَّر من دون تعليقات، كأنها مشاهد لا غاية لها سوى توثيق اللحظة، بالصمت، بصوت المصوَّر، وسوى تأمل اللحظة التاريخية التي تعود فيها ممتلكات شعب إليه بعد 130 عاماً من النهب. لا سياق تاريخياً هنا يشرح الراهن، بل الراهن وحسب بوصفه حدثاً تاريخياً، وحيّاً يتلو عملية نهب استعمارية لم يكترث الفيلم بتفاصيلها في حينه، بقدر ما فعل تجاه امتداداتها اليوم.
رافقت المخرجة بالكاميرا عمليات حفظ الآثار في صناديق وإعادتها إلى بلادها، ثم فتح الصناديق وتثبيت التماثيل في أمكنتها الجديدة، ثم رافقت نقاشات جماعية لطلاب في بينين، حول معنى هذه الاستعادة في سياق حالة الاستعمار وما بعده. وذلك كله مجاوراً لتعليقات كتبتها، على لسان أحد التماثيل الملَكيّة، التي كانت رقماً في «كي برانلي»، وعادت لتكون رقماً في بلدها الأصلي، أيقونة ثابتة في مكانها، في الظلام وبدرجة تكييف آمنة.
قد يكون انحياز ديوب للجانب السينمائي، هو المبرر في الخيار الفني الذي اتخذته، وإلا لكان وثائقياً تلفزيونياً يستقصي المعلومة ويتقصد الإعلام. لا معلومات بكلمات نتلقاها هنا، بل مراقبة من الخارج، لمشاهد تفكيك التماثيل من المتحف الفرنسي وتركيبها في موطنها، إضافة إلى كلام الطلاب واصلاً كما هو. كأن المخرجة أرادت أن تنزع عن موضوعها كل ما هو استعماري مقحَم، كل ما هو دون كلام أصحاب البلاد وكنوزها، وصورهم، ما أضفى على الفيلم جانبه التأملي منحّياً أي جانب إرشادي.
هذه الميزة الأقوى في الفيلم بالعلاقة مع موضوع، هي كذلك مأخذ على الفيلم من ناحية سينمائيته. فهو، بمدة ساعة، وبفقدانه العمق والبحث واكتفائه بالمراقبة الحيادية، غير جدير بمسابقة رسمية لمهرجان كالبرلينالي، ولا بجائزته الأولى، التي بدت هنا أقرب إلى موقف هو ضروري أخلاقياً، قبل أن يكون سياسياً وتاريخياً، لكن ليس فنياً، تحديداً بجوار أفلام ممتازة شهدها المهرجان، بان منح الدب الذهبي لهذا الفيلم خارج المعايير السينمائية.
أخيراً، وعودة إلى الأسطر الأولى، كانت الجائزة نافذةً للفيلم ومن بعده الموضوع، للوصول بقدرٍ ما كان له أن يناله بخلاف ذلك، لا موضوعه الخاص وحسب، بل الموضوع العام وهو إسقاط هذه الحالة على مئات غيرها، في علاقة المتاحف الأوروبية كمخازن لغنائم الاستعمار، بالثقافات المستعمَرة وكنوزها المصادَرة.
هي مسألة خارج النطاق السينمائي. أما امتياز الفيلم، وإن اضطر لأسلوب فني، فكان في استحضار الموضوع إلى صالات السينما، ومنحه ما هو أكبر من قصص صحافية إخبارية.

كاتب فلسطيني/ سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب