مقالات

عن جوهر الصراع بين غرب يأفل وجنوب يريد حريته

عن جوهر الصراع بين غرب يأفل وجنوب يريد حريته

عمرو حمزاوي

لم يعد بخافٍ على أحد التشابه الطاغي بين الأوضاع العالمية التي نمر بها اليوم وبين ما كان من حال الدنيا وأحوال شعوبها في الربع الأول من القرن العشرين.

كانت الحرب العالمية الأولى بما خلفته من دماء ودمار وإنهاك اقتصادي واجتماعي ونفسي وفوضى سياسية قد كتبت نهاية حقبة السيطرة الأوروبية على العالم التي امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين وتمثلت ذروتها في اقتسام إمبراطوريات وممالك القارة العجوز لأصقاع الأرض خارجها في مؤتمر برلين 1884. وتواكب مع التراجع الأوروبي، فكريا وثقافيا وفنيا، تصاعد أصداء الأصوات الناقدة للنموذج الغربي للتقدم والمحذرة من أفوله والباحثة عن إجابات لتناقضاته الكثيرة (الدمار والبناء، القتل والعلم، الآلة والإنسان) في خبرات حضارية أخرى. حين صمتت مدافع الأوروبيين وغادر الجنود الأنفاق والمخابئ غير خائفين من الموت بفعل انبعاثات الأسلحة الكيماوية في 1918، كانت هيمنة أوروبا على الاقتصاد العالمي وخطوط التجارة والملاحة تتراجع لصالح قوة صناعية وعسكرية بازغة كالولايات المتحدة الأمريكية التي شرعت في مد شبكات نفوذها برا وبحرا وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها وبناء قواعد لسفنها، وأيضا لصالح قوة إقليمية ذات قدرات صناعية وعسكرية متطورة كاليابان التي تمكنت آنذاك من النمو السريع والتصنيع واسع النطاق. وإذا كانت الولايات المتحدة قد تحولت في إدراك الأوروبيين من أرض لمستعمراتهم الاستيطانية في العالم الجديد إلى دولة مستقلة وقوية ذات ثروات طبيعية هائلة وقدرات تصنيعية كبيرة مع نهايات القرن الثامن عشر وصارت محسوبة كإضافة حقيقية إلى النموذج الغربي للتقدم في القرن التاسع عشر والقرن العشرين قبل أن تصبح قائدته بحلول الخمسينيات، فإن نجاحات التجربة التنموية اليابانية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والعقود الأولى للقرن العشرين أثبتت للأوروبيين أن فرصا للتقدم حاضرة بعيدا عنهم وأن دولا كاليابان تقع خارج قارتهم ولم تسقط لتكالبهم الاستعماري تستطيع أن تشق طريقها باستقلالية نحو النمو والتصنيع ونحو أسواق العالم.

في الربع الأول من القرن العشرين كانت شعوب أوروبا تدرك عمق أزمة نموذجها للتقدم وتبحث عن بدائل لأفول الغرب

غير أن نجاحات الولايات المتحدة بعيدا عن القارة العجوز واليابان في آسيا لم يتلقفها فقط الأوروبيون القلقون بشأن واقعهم ومستقبلهم بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل تلقتها بإيجابية بالغة الشعوب التي كانت تئن تحت وطأة استعمار “الرجل الأبيض” وتكافح من أجل تقرير مصيرها والانعتاق من سيطرة الأوروبيين عليها ونهبهم لمواردها وسلك طريقا مستقلا نحو التقدم. خارج أوروبا، نظر إلى الولايات المتحدة بين الحربين على نحو مثالي كقوة عالمية جديدة تؤيد القضاء على الاستعمار والحق في تقرير المصير وتدافع عن التجارة الحرة عوضا عن علاقات النهب والاستغلال. وكانت المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون قبل مشاركته ومشاركة بلاده في مؤتمر باريس للسلام 1919 ومعاهدات السلام بفرساي أيضا 1919 وتضمنت الإدارة السلمية للعلاقات الدولية وحرية التجارة والملاحة وإلغاء الحواجز الاقتصادية وتخفيض التسلح وإعادة تعمير أوروبا والإدارة العادلة للمستعمرات حتى يتحقق تقرير المصير وضمان حقوق القوميات المختلفة دون اضطهاد، كانت هذه المبادئ مصدرا لإلهام الشعوب الآسيوية والافريقية وشعوب أمريكا اللاتينية فضلا عن عديد الأوروبيين الذين كانوا إما يأملون في الحرية والاستقلال بعد انهيار بعض الإمبراطوريات والممالك في الحرب الأولى (القوميات السلافية في مناطق وسط وشرق أوروبا التي حكمتها قبل 1918 إما الإمبراطورية النمساوية-المجرية أو الإمبراطورية العثمانية أو تقاسمت أراضيها كما في حالة بولندا المملكة الألمانية وروسيا القيصرية والدولة السوفيتية التي ورثتها) أو يريدون الحفاظ على ما تبقى لهم من الأراضي والكرامة الوطنية بعد الهزيمة في الحرب كما سعت ألمانيا والنمسا والإمبراطورية العثمانية بعد الهزيمة كأمثلة على تعويل المهزومين على مثالية وعدل مبادئ ويلسون.

وعندما تمخضت مفاوضات السلام بباريس وفرساي عن تحايل المنتصرين في الحرب من الأوروبيين على مبادئ تقرير المصير وحق القوميات المختلفة في الاستقلال، وحين تمكن البريطانيون والفرنسيون من الالتفاف على مبادئ ويلسون واحتفظوا بمستعمراتهم خارج أوروبا وحملوا المنهزمين في الحرب كامل المسؤولية عنها وألزموهم بمفردهم (خاصة ألمانيا) بتعويضات كبيرة؛ لم يغير ذلك بين الحربين من النظرة الإيجابية خارج أوروبا وداخلها إلى الولايات المتحدة الأمريكية كقوة جديدة ترغب في نشر السلام والعدل والمساواة والتقدم في العالم ومتجردة من النزوع الاستعماري وصاحبة نموذج للتقدم مختلف عن إمبراطوريات وممالك القارة العجوز. ولم تتغير النظرة الإيجابية هذه، إلا حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وتبلورت قيادة واشنطن للمعسكر الغربي وتوظيفها لأسلحتها المتطورة وصناعتها المتقدمة وتجارتها الواسعة للهيمنة على مقدرات الشعوب وتورطت فيما صار يسمى الاستعمار الجديد وانهارت مصداقية مبادئ ويلسون.

تغيرت النظرة الإيجابية هذه حين شرعت الولايات المتحدة في الوقوف في وجه رغبات تقرير المصير والاستقلال في مناطق عديده بحجة مكافحة الشيوعية ومناهضة المعسكر الشرقي الذي تزعمه الاتحاد السوفييتي آنذاك، وتورطت في حروب توسعية وهجومية شهدت ارتكاب جرائم مفجعة (حروب فيتنام وعموم الهند الصينية نموذجا)، وإطلاقها لسباقات تسلح متتالية استنزفت موارد وطاقات بشرية احتاجت إلى السلم والتقدم والتنمية وليس الحروب وعسكرة العلاقات بين الشعوب والدول، سباقات تسلح بدأت بصناعة الأمريكيين للقنابل النووية وإلقائها على رؤوس اليابانيين في 1945 ولم تتوقف إلى يومنا هذا.

في الربع الأول من القرن العشرين، كانت شعوب أوروبا تدرك عمق أزمة نموذجها للتقدم وتبحث عن بدائل لأفول الغرب، وكان العالم خارجها يبحث أيضا عن الانعتاق من استعمار الرجل الأبيض وعن نماذج بديلة للتقدم دون عنف وحروب وإفراط في المادية معولا بداية على مصداقية أمريكية سرعان ما انهارت وباحثا فيما بعد عن بدائل ذاتية للأمن والاستقرار والتقدم.
وذلك تحديدا هو جوهر الصراع العالمي اليوم.

كاتب وأكاديمي من مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب