
مفردات من وصفة التقدم الألمانية
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ
يتساءل الكثير من الناس بما فيهم علماء وأساتذة عن قضية هي في الحقيقة موضع التساؤل أيضا لإدارات وقيادات دول عديدة بما في ذلك دول متقدمة كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها. السؤال الأبرز الذي يمكن نصيغه وينطوي في ثناياه على أسئلة أخرى، والسؤال هو ” ما هي العوامل التي أدت لأن يبلور الشعب الألماني خصائصه الثقافية والسياسية والعلمية والاقتصادية “.
أعتقد أن هذا التساؤل قد طرح في بلادنا العربية، في أكثر من محفل وأكثر من صعيد، وعندنا غالبا الناس يردد الناس تبسيطاً ” ألمانيا شعب حي “أو ” الألمان شعب شاطر ” ولكن بالطبع هذه ليست كل المسألة، فالقضية برمتها بها تفاصيل كثيرة.
هل بلغت ألمانيا هذه المكانة بصفة استثنائية ووفق معطيات وظروف خاصة …؟ الإجابة هذا السؤال هو نعم .. فالمسيرة الناهضة لألمانيا كانت فريدة حقا في طبيعتها، فالظروف الخارجية كانت محبطة لأقصى درجة، وابتداء نضع حقيقة مادية موضوعية في مقدمة تلك العوامل، هي أن الشعب الألماني لم يبلغ وحدته القومية وسيادته كدولة معتبرة في أوربا إلا في وقت متأخر(1871) بفارق 121 عاماً عن بريطانيا وهولندة وفرنسا، إذ كانت الثورة الصناعية (1750) قد نهضت وترعرعت في بريطانيا وفرنسا وهولندة وبلدان غرب أوربا عموماً، التي كانت قد استفادت من نتائج الثورة الصناعية، وأثمر تقدمها عن الاستعمار ابتداء بإقامة المراكز التجارية، ثم مستعمرات جرى نقل المواد الخام بكثافة إلى البلدان الصناعية، ثم تطور الأمر في استعباد الملايين من القوة العاملة في تلك البلدان في الإنشاءات والأعمال اليدوية، وفي استصلاح الأرض، ثم سيق أبناء تلك البلدان كجنود في الجيوش الاستعمارية في حروب الضم والإلحاق لشعوب وبلدان أخرى، واستخدموا في سائر عمليات الصناعة والإنتاج .
إذن العائق الأول كان التأخير 121 عاماً عن الدول التي استفادت من الثورة الصناعية، ويرى بعض المؤرخين، وهو عائق يراه البعض عاد بالفائدة، إذ استطاعت ألمانيا أن تستفيد من أفضل منجزات الثورة الصناعية متجاوزة فترة البداية. ولكن ما لبثت أن أطلت المشكلة الثانية، والتي هي في الواقع من متفرعات الثورة الصناعية وعصر الاستعمار إذ قادت إلى تنافس وحروب بين الدول القوية على قيادة أوربا، وعلى النفوذ وحيازة المستعمرات والسيطرة على الطرق الملاحية في أعالي البحار، فخسرت دول ضعيفة العدد والجيوش كهولندة وبلجيكا واسبانيا في سباق التنافس، ولكن الصراع بين القوى الكبيرة قاد إلى الحرب العالمية الأولى، وبنتيجته خسرت ألمانيا والنمسا كدول صناعية مهمة مواقعها القيادية وتكبدت خسائر فادحة في الأرواح والاقتصاد والممتلكات، وفرضت عليها عقوبات قاسية الغرض أن تحول دون أمكانية تحقيق نهوض صناعي واقتصادي كبير.
ولكن الشعب الألماني المناضل من أجل وحدته وتقدمه رفض العقوبات وقرر النهوض بإرادة كبيرة، ولكن هذه الطموحات (جرى بعضها بقلة صبر وانفعال) ترجمها الحزب النازية إلى طموحات توسعية اعتدائية، دفعت البلدان الأوربية إلى التكتل، وقادت هذه بمحصلتها إلى الحرب العالمية الثانية بنتائجها المعروفة. وفي الحربين العالميتين خسرت ألمانيا نسبة مهمة من شبابها ومن قوة العمل، وخسرت اقتصاديا وفي الممتلكات، ما يكفي لأن تستغرق عشرات السنين في عملية إعادة إعمار تكلف وقتا وجهداً ومالاً أكثر من عملية البدء، ومعالجة جراح (ما زالت تنزف حتى الآن )مشكلات اجتماعية وثقافية)، ولكن توفرت للشعب الألماني مسألة مهمة هي : الارادة، والأزمة / المأساة لم تدفع لليأس، بل دفعت قيادات مخلصة ونزيهة اتحدت إرادتها في التناهض ومواجهة الكوارث بشجاعة، لبناء دولة صناعية علمية من بين الأنقاض، ومجتمع متقدم يتفوق على مجتمعات الدول الأوربية المتقدمة، بل ويتصدر دول العالم.
كيف توفرت للشعب الألماني هذه الخصال، هناك من يقول أن هذا الشعب له صفات منذ الخليقة، أو مترافقة مع الولادة، ويؤسفني أن أخالف هذه الآراء، فالبشر متساون في القدرات والمواهب، وإن كان هناك جينات متوارثة من ألاف السنين، فقدرها ضئيل، وبتقديري الأساس هو النظام والقانون والانضباط ..
قرأت مقولة للشاعر الألماني الكبير يوهان فولفغانغ غوتة، يقول فيها أن الشعب الألماني معذب يعاني الألم لفقدانه المتواصل عبر التاريخ لوحدته الوطنية، ولمساحات شاسعة من أراضيه، والألم يدفعه للتماسك، ويحثه على النهوض واجتراح المعجزات، الألم عنصر دافع وخلاق يدفع الشجاع للصمود ويدعوه للنهوض … وهكذا خلال نشاهد أن الألمان يقدمون المساعدات وينقذون اقتصادات دول أوربية متقدمة ….!
هل هذا كل شيئ في معادلة إحراز التقدم …..؟
كلا بالطبع، ليست العوامل المعنوية (على أهميتها)، إذ تجمع أراء الخبراء بعد دراسة عميقة أن سر معادلة التقدم الألماني هو بالتأكيد ” التعليم “. نعم التعلبم بكافة مراحله من الحضانة وحتى التعليم العالي بكافة درجاته. والدولة الألمانية تعتبر أن الطفل هو ليس ملك لوالديه فقط، بل هو ملك المجتمع والوطن، لذلك يحرصون على أن يقضي الطفل / الطالب أفضل وقت اليوم بأيدي معلميه، ويمارس ليس فقط تعلم المادة الدراسية فقط، بل المعارف الأساسية في الحياة، في التعامل والتهذيب والتصرف السليم في كافة الحالات التي يواجهها، فهو يفكر ويأكل وبلعب ويتعامل مع زملاؤه أمام أنظار الأساتذة، الذين قد تلقوا تعليما أكاديميا عاليا طويلا على أيدي خبراء واختصاصيون في التربية، ومن المؤكد أن تعليم الطفل أصعب بكثير من تعليم اليافع، لذلك يخصص لمدارس الأطفال أفضل الكوادر التعليمية، وتتلقى تعليما راقياً، والنتائج هي لدينا أطفال تعلموا كل شيئ في الحضانة والروضة والتمهيدي قبل دخولهم مرحلة الابتدائية.
هناك من يعتقد، أن تعليم الأطفال في رياض الأطفال، لا يحتاجون إلى مدرسين تلقوا تعليما جداً، بل يكفي تعليما بسيطاً قد يفي بالحاجة. ولكن للأسف هذا خطأ فادح، فالاطفال بحاجة إلى معلمين تلقوا تعليما خاصاً، فالطفل هو بيدك كالعجين أو الطين، بوسعك أن تصنع منه آية من الفنون والتعليم، كما يمكن أن تكون النتيجة سلبية جداً إذا ترعرع في رياض أطفال سيئة الأعداد والتدريب. وهذه مسألة في غاية الأهمية.
ومن بين أهم ما يتعلمه الأطفال هو الانضباط العالي، ليس على الطريقة العسكرية، ولكن ليس بعيداً عنها …! وفي مقدمة ما يتعلمه الطفل احترام المسئول والمدرب، ويعلمون الأطفال تهذيب السير في الشارع، والإطاعة التامة للعلامات المرورية والإرشادية، وكيفية التصرف في الملاعب العامة والحدائق، والعناية بالبدن، والثياب. أما في المدارس الابتدائية فصاعداً فيتعلم السباحة ومعالجة الأعطال في البيت(تصليحات) والضرب على الآلة الكاتبة(حاليا الكومبيوتر) وصبغ جدران البيت، والدروس الأولية في الصناعة واستخدام العدد والالات المنزلية.
التعليم ليس فقط الدروس المنهجية، المدرسة هي صورة ما يريده المجتمع أن يكون الحال عليه …! بعد المرحلة المتوسطة، لا يذهب جميع الطلبة للجامعة، بل أكثرهم يتجه للمدارس المهنية، ليدرس سنتين لأي مهنة مهما كانت بسيطة، حتى العمل كنادل في المقهى .. أو المطعم، وبعد الدراسة الثانوية لا يتجه جميع الطلبة للجامعة، بل أكثرهم منهم يتجه للمعاهد الفنية ليدرس لسنتين، أو ثلاثة، والدراسة الجامعية، يتجه لها من يهوى العلم والتعليم، ويتطلع لوظائف كبيرة، أو أنه لسبب وآخر متعلق بمهنة معينة، أو راغب في شهادة البكالوريوس. مع العلم بألمانيا هناك إمكانية لمن يرغب من خريجي المعاهد الفنية، أن يواصل الدراسة الجامعية، للحصول على البكالوريوس،
أما دراسة الماجستير والدكتوراه، فهذه لا يقبل بها بسهولة، إذ يتم توجيه الطلبة نحو المادة والتخصص بناء على حاجة التعليم لهذه الشهادة. ويقضي عمره في ممارسة تخصصه، فليست هناك شاردة أو واردة قد فاتت عنه، وقد صادفني بروفسور ألماني يعرف أثيوبيا أفضل بكثير .. بكثير جداً من رئيس جمهورية أثيوبيا، فالأول يدرسها علمياً منذ لا يقل عن 36 سنة، وأما سيادة الرئيس فجاء على ظهر دبابة أثيوبية أو أجنبية …! وهذا الأستاذ قال لي أنه يعرف تربة المقاطعات والمناطق من لونها .. وتعرفت على أستاذ مختص ببلد آسيوي، يعرف تفاصيل مذهلة، من الطعام واللباس والعادات، هذا غير السياسة والاقتصاد بالطبع.
الجامعة مؤسسة علمية هائلة، بأساتذتها، وبتقاليدها العلمية / الجامعية الصارمة، وأعتقد يندر أن يتخرج منها طالب بمستوى أقل من المطلوب. وفي الجامعة مكتبة عملاقة مذهلة، وحين تخرجت من الجامعة، طلب مني أو أوصل 3 نسخ من أطروحتي، لمكتبة الجامعة التي كان عمرها يكاد يبلغ 800 عام (ثمانمائة عام)، وهناك قاعة تخزن في الاطاريح لكل (50 عام) فتشاهد عشرات الألوف من الاطاريح، بوسعك أن تشاهدها مصورة، وتطلب صفحة أو صفحات أو الاطروحة مصورة، لقاء مبلغ زهيد.
كل شيئ معد للطالب بسهولة: بطاقة المواصلات، القطارات، مطعم الجامعة ويسمى المنزه، القسم الداخلي الرائع ويسمى الانترنات، الطالب يقضي أجمل سنوات عمره، في أجواء كلها تساعد على النمو الشخصي العلمي الراقي ..
هذه بأختصار شديد مراحل التعليم وتدور بدقة تامة، وبآليات لا تقبل الخطأ حتى بأبسط درجاته، فالخطأ الصغير في الروضة ربما يسهل إيجاد الحل له، ولكنه سيكون أكثر صعوبة كلما تقدمت المراحل. ولا مجال مطلقا لأي تقدم دون أن يتمتع صاحبة بالكفاءة التامة، وللتأكد لا يقبل في أي وظيفة إلا بعد أختبار دقيق. فالوظيفة ليست طريقة للتعيش، بل لخدمة الناس والمجتمع، ويجب أن يتأكد المديرون بنسبة 100% أن الموظف يتلقى راتبه بقدر استحقاقه، بدون أي زيادة وإضافة، ولكن بدون نقصان أو ظلم… وهكذا تخلق جهازا إداريا في الدولة قادراً وكفوءاً ومجرباً ومتعلماً، واحتمال حدوث الخطأ نادر جداً. وشاهدت بنفسي موظفة بوظيفة بسيطة جداً قد نعتبرها تافهة ” كاتبة صادرة وواردة ” تعمل كمتدربة تحت الإشراف …!
رقدت في مستشفى الشارتيه / برلين، لمدة شهر ونصف، والمستشفى تعليمي، هو من أضخم المستشفيات في العالم (عبارة عن مجمع مستشفيات) يسير بنظام دقيق للغاية، يستحيل أن تجد خطأ مهما كان بسيطا وتافهاً. الشاريتيه يتألف طاقمه الطبي (غير الإداري والهندسي) من أكثر من 200 بروفيسور و4000 طبيب متخصص ذو كفاءة عالية يغطون كافة المجالات والتخصصات، 13 بروفسور منهم حصلوا على جائزة نوبل ، ويدرس الطب في مستشفى الشارتيه 7500 طالب وطالبة مسجلون في الشاريتيه. وتتعامل مع 1،080،000 عيادات خارجية و 128،000 مريض يقيم في 3،500 سرير سنويا، وهناك 14،400 أشخاص يعملون في مواقعها الأربعة في برلين .(*)
(المعلومات من الموسوعة الألمانية والأرقام تعود لعام 2021 )
وما اريد هنا تسجيله بدقة تامة هو ما يلي:
مجموع الافراد (153.700) هؤلاء الأشخاص متواجدون في المستشفى على مدار الأيام والساعات، وحتما لهم أمزجة، واتجاهات سياسية، وفيهم معارضون للدولة، وفيهم من لا يحبذ رؤية أجانب، ومنهم من يعتقد أن لدية نظرية أفضل لإدارة الأمور. ولكنهم في النهاية يعملون كفريق واحد، كبناء متين مرصوص وانضباط طوعي صارم جداً، فمن له فكرة غير هذه، فليغادرنا رجاء … فما لاحظته هو الالتزام التام بالواجب وبحماس وهمة وعدم تكاسل، ولا فرق بين إنسان وآخر، بين رجل أو مرأة، الكل يعتبر مريض وبحاجة للمساعدة ليعيش …
شاهدت بأم عيني مشاهد، إنسانية .. هزتني من الأعماق، جعلت أي كلمة أقولها لا تعني شيئاً، تولت علاج فقداني الذاكرة والنطق، طبيبة اخصائية، مسجل أنني كاتب، أبلغ 79 من العمر، أجيد الألمانية والإنكليزية والعربية، وأن لي 65 كتاب مؤلف ومترجم، وأنن قد عملت كأستاذ جامعي ودبلوماسي. بذلت هذه الانسانة مجهوداً جباراً في استعادة قدراتي تمضي كل يوم ساعة كاملة تبذل فيها جهدا وصبراً في إعادة الذاكرة لي واستعادة قدرتي بالنطق .. كانت تقول لي أنا محرجة أمامك، فأنت كاتب وأستاذ، وانا اشعر بمسؤلية كبيرة جدا في استعادتك لقدراتك، تحدثني ساعات عن الفن والادب والموسيقى، والمسرح، وفي نهاية كل درس تسألني : هل أتعبتك د. دباغ .. أنا آسفة ولكن لابد أن أفعل هذا، وأنت يجب أن تتحمل التعب لتعود للكتابة .. … لم أكن أجد الكلمات لأعبر لها .. في اللقاء الأخير عانقتني بفرح .. وقالت أنا فخورة أني نجحت في علاجك ..
هذه هو المجتمع الألماني، لم يقل لي أحد كلمة واحدة يمكن أن تجرح مشاعري، لم الحظ ولا ثانية واحدة أحد العاملين يتكاسل في خدمتي ….
ألمانيا في ساعات بعد منتصف الليل، يمتثل المشاة، أو السيارات للوقوف للضوء الأحمر رغم الخلو التام للسيارات أو المارة … العبرة ليس في ما تراه، بل باحترام القاعدة القانونية والنظام، لذلك يخلو المجتمع الألماني من مئات المشاكل المألوفة في دول أخرى …. هذه هي كلمات السر للتقدم، توصلنا لها بعد الدراسة والتدقيق.
التربية … التعليم … التدريب … النظام … الانضباط
خمسة مصطلحات مهمة
المركز العربي الألماني / برلين
مفردات من وصفة التقدم الألمانية
العدد |: 413
التاريخ : أكتوبر / تشرين 1 / 2024