عامٌ من الخيبة

عامٌ من الخيبة
أنسام كامل أبو ستة
بعد مرور ست سنوات أجدُ نفسي أقفُ مرةً أخرى مندهشة، وأعود مُجدداً لأسألَ نفسي؛ إذ لم يطرأ على ذهني يوماً أنني سأشهدُ على زمنٍ يقتحمه غريب، وأنني سأكون شاهدة على تبدل الحياة، وكأن الزمن تائهٌ عن عقارب ساعته، بل لم أتخيل أن يستطيع شيءٌ على أن يُرغم الضوضاء على الصمت، ليس لساعةٍ أو ساعتين.. إنما لشهور، هو أمرٌ عجزتُ عن استيعابه!
فقد غُلقت الأبواب بعد إفراغ الشوارع حتى من ظلالها، وتشنج الفضاء فأُسدلت الستائر على الوعود ليومٍ تمنته البشرية قريبا، والأبصار شاخصةٌ للأبيض مُترقبة ماذا يقول؟ فالغريب المؤذي كما كُنا نظنه قد فعل فعلته وأربك الإنسانية، دون أن يبالي، فهو الذي أبكى وعذب وقتل وتحدى البشرية جمعاء. بذلك كنتُ أفكر وأنا أتذكر فيروس كورونا، وكيف غيّر ملامح العالم وقلَبه رأساً على عقب، لِلحظةٍ ظننتُ أن تلك الوحدة الإنسانية التي استيقظت في ضمائر العالم لن تغفو مجدداً، وأن مشاعر الإخوة ستبقى حية. غربيٌ، شرقيٌ، مسلمٌ، مسيحيٌ، يهوديٌ، هندوسيٌ، أبيض، أسود… كل ذلك لا يهم، فالألم الذي سببته كورونا، أذاب العنصرية والتفرقة بين المجتمعات الشرقية والغربية، فكما توحدنا لمواجهة هذا الفيروس بكل شراسة، وتبعنا الأبيض بتعليماته المتوالية، فإننا سنتحد لمواجهة أي خطر يدقُ جرس الإنسانية!
عبثاً..
فقد كان ذلك حلما وانتهى، ووقفتُ كالمتخبطة أمام الحقائق المؤلمة والمؤسفة؛ إذ عاد العالم لرؤيته القديمة، يُجاري المصالح الدولية على حساب دماء أبرياء تؤرقُ بلا أدنى حق.
مضى اثنا عشر شهراً قضيناها بالهرب من القصف إلى هنا وهناك، من المحافظة هذه إلى تلك، من خيمة النزوح هذه إلى تلك، حال الأمهات كحال القطة تحمل صغارها إلى المجهول، فكل مكان مُستهدف، وكل مبنى يرتفع عن الأرض يرتقبُ أصحابه اللحظة التي سيسقطُ فيها أرضاً، سواء أكانوا فيه أم أخلوه، فسقوطه مُرتقب بكل ذكرياته وأحلامه، فالحجارة هنا ليست كأي حجارة هناك، الحجارة هنا مُستهدفة.. كما الشجر.. كما البشر. وكبشر ننتظر بلا كللٍ أو ملل أدنى خبرٍ يواسي أفئدتنا المُحترقة، خبر نتنفسُ على إثره الحياة، خبر يُعيدُ إلى ذواتنا أنفسها، يُذكرنا بأننا بشر وأننا جزءٌ من هذه البشرية ويقع علينا كما عليهم كلمة (الإنسانية)، ألا نستحق هدنة إنسانية؟
هُدنة… هُدنة تُربتُ على أكتافنا وتهمسُ لنا بأن نستريح، أن نغفو لبُرهة من الركض الدائر بين مُخيمات اللجوء والمُساعدات الإغاثية، هُدنة نتنفسُ الصعداء بعدها، مع أنني أُيقن بأن تلك اللحظة هي الأثقل والأكثر مرارة، ربما لأنني أُدرك أن تلك الأنفاس التي سنتصارع في أخذها ستحمل في طياتها رائحة دم أكثر من أربعين ألف شهيد!
أربعون ألف روح غادرتنا بغتة ونحنُ نغلقُ أعيننا عن رؤية الموت ونُداري رؤوسنا من هول الانفجارات، كما نتشبث عبثاً بأجسادنا الخاوية المُهتزة على إثرها، فليس من حولك ما يحميك، أتُداريك قطعة قُماش من الشظايا المُتناثرة؟ أم عساها تمتصُ من حدة الانفجارات فتقع على أُذنيك بخفةٍ فلا يُصيبها الصمم؟ أم تُراها تحجب ومض الانفجارات المتوالية من الأحزمة النارية قبل أن تخطف بومضها بصرك؟ وهل سيشهد البصر خيبة أمل أخرى في لبنان كما شهدها في القطاع؟ ألم تكنْ رفح هي الخط الأحمر في نظر الساسة ودُعاة الإنسانية ؟ ألم يتجه إليها النازحين حُفاة ويتكدسون فيها لعدة شهور، إذ كانت رفح في نظرهم القصير أو أملهم الوحيد بأن تكون آخر محطة تحُطُ بها أقدامهم، آوتهم كأمهم، استطعموها… فأطعمتهم مما في خزائن أرضها حتى نفدت، يتجرعون الطمأنينة من تصريحات هذا وذاك قبل أن يرتطم كل شيء في وجه الحائط، ويُعاد الركض في الحلقة المفرغة من البداية؛ ولكن بالكثير من الخيبة.
وهنا وعلى مضض نحسدُ الأرض التي كانت أذكى منا، إذ لم تُصدق أحداً، لم تُصدق التنديدات وقلق الأمين العام للأمم المتحدة، فقط استشعرت بصاحبها، لم تتحمل ضعفه وقلة حيلته بتوفير المياه، أو حتى المبيدات الزراعية، فاعتذرت مُعلنةً حزنها بأشجارها التي ذبلت، والمحاصيل التي فسدت قبل أن تُقطف، لتصبح المساعدات الإغاثية هي الأمل في البقاء؛ ويبقى الجوع هو المُسيطر على البطون.ما بين لبنان وغزة، تتصاعد أدوات جديدة لجيش الاحتلال، أدوات وأساليب تحت مُسميات عسكرية بتنا خبراء بها، كخطة الجنرالات التي يستخدمها حالياً في شمال غزة، التضييق جوعاً على السكان أو التلاعب بالأرواح تحت هزات الأحزمة النارية ما الفرق؟
لا يزال القلق سيد الموقف، ولا تزال أعيننا تترقبُ الدقائق وأشياء في داخلنا تتساءل عمّا سيكون، غزة.. لبنان.. الشمال.. الجنوب.. منطقة حمراء.. صفراء.. خضراء، قصفٌ هنا بالتزامن مع هناك، وماذا عن جلسة مجلس الأمن أو اجتماع الكابنيت الإسرائيلي؟ ماذا قال نتنياهو في كلمته؟ هل سينتظر الانتخابات الأمريكية؟ ماذا أثمرت اجتماعات الوسطاء في الدوحة.. القاهرة.. والانتظار بالأيام، لشهور، حتى طوت سنة كاملة وصلت نيرانها إلى لبنان، والعالم يغفو كالحمل الوديع! كنا ننتظر الهدنة بفارغ الصبر، لا نصدق أن يُشير إليها مسؤول حتى نصفق ونهلل بين الخيام، نستمر في التصديق والحلم حتى تشربنا الصدمات، فبتنا نخاف أن نسأل ماذا بعد الهدنة؟ ماذا سيحلُ بنا؟
فالحقيقة الوحيدة التي لا يعلمها غيرنا من البشر هي أننا على موعدٍ من تفقد أحبابنا وأقاربنا الذين قد فقدنا الاتصال بهم، وأننا سنحاولُ مراتٍ ومرات لنستوعب أننا لن نَرهم مرةً أخرى، وأننا لن نسمع صوتهم وهم يلهون في الحياة أو يتذمرون منها فقد رُحلوا عنها بصاروخٍ خاطف، أو برصاصةٍ خارقةٍ روحه، أو بقذيفة مدفعية، أو بهذه أو بتلك. وهناك مَنْ لم نفقدهم وأنهم أحياء يُرزقون؛ لكنهم أسرى.. وهناك..
وهناك الأحباب الذين رفضت منازلهم التخلي عنهم، فكما احتضنتهم أحياء في داخلها وارتهم تحت رُكامها بعد الدمار الذي خلفته صواريخ لا تعرف أين الصغير وأين الكبير؟ أين الذي لا يأبه الموت وأين الذي تشتاق روحه للغد؟ أين الذي نام ليله ينتظرُ رؤية أحبابه في عالمٍ آخر، وأين الذي لم تذقْ عيناه النوم خوفاً من فقدان أحبابه؟
وهناك مجهولو الهوية، توارت جُثثهم تحت الورى، دون قُبلة الوداع، وقبر يليقُ بالجسد الذي أُنهك من الحياة، فدُوسَ على عجلٍ مع آخرين ليومٍ غير معلوم. فمجهولو الهوية يا سادة سيكونون معلومين بعد الهدنة، بعد خطابٍ لا يتعدى الدقائق لناطقٍ مسؤول يُخفي الغِبطة بأن الهدنة ستدخل في السريان بعد الساعة..
الدمار الذي خلفته الحرب فاق كل الكلمات، والفقد الذي أفقدته لنا الحرب فاق كل الوجع، والصمت الذي صَدَمَنا به العالم في الحرب خيب كل رجاء، ورداء الإنسانية العالمي قد اهترأ في أعيننا، والأبيض بالنسبة لنا فَقَدَ خاصيتي المنطق والنطق على سواء، فالمستشفيات أُوقفت عن العمل، والأدوية نفدت، وأعداد الشهداء تتزايد، والمجازر لم تتوقف، والهواء تلوث، والتربة فسدت، والأمراض انتشرت، والحياة أُعدمت.. والصمت ما زال سائدا.. والأبيض لا يزال يتلحفُ به، فكيف يا سادة سنُصدق إنسانيتكم، ونُكذب ازدواجية معاييركم؟
كاتبة فلسطينية / قطاع غزة