ثقافة وفنون

مُسلية الغريب: رحلة رجل دين من دمشق للبرازيل عام 1865

مُسلية الغريب: رحلة رجل دين من دمشق للبرازيل عام 1865

محمد تركي الربيعو

يروي لنا نص حقق قبل سنوات قليلة للعربية بعنوان (مُسلية الغريب في كل أمر عجيب) حكاية إمام ولد في بغداد، وعاش في دمشق خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى الستينيات تقريبا، وهو العام الذي شهد ما عرف بمذبحة المسيحيين في المدينة، وإثر هذه الحادثة، خرج هذا الإمام والقاضي والشاعر من المدينة نحو القسطنطينة، وهناك عين إماما في البحرية. يدعى هذا الامام عبد الرحمن بن عبد الله البغدادي الدمشقي المدني الحسني (ت1881). في عام 1865 أبحر الإمام مع سفينتين تحمل جنوداً عثمانيين من مدينة بورصة نحو البصرة في العراق، وقد ضاعتا في عرض البحر لعدة لأسابيع ليجد الجنود العثمانيون أنفسهم على شواطئ البرازيل، وفق ما يرويه البغدادي «وما زلنا سائرين حتى قذفتنا الرياح بالاضطرار بغير اختيار إلى باي تخت دولة برازيليا».
عندما نزل الجنود العثمانيون شواطئ البرازيل، تفاجأ الإمام بوجود أفارقة مسلمين برازيليين، ما إن عرفوا أنه رجل دين وإمام، حتى أخذوا يطالبونه بأن يصبح معلما لهم وإماما. وهنا يروي لنا البغدادي أنه قرر أن يتخلى طواعية عن مهنته كإمام في الجيش العثماني، لصالح تعليم هؤلاء الناس أصول الإسلام التي كانوا يجهلونها، وهي مهمة لن تكن قصيرة، بل استغرقت قرابة ثلاث سنوات بين عدة مدن برازيلية مثل، ريو دي جانيرو وباهيا وبيرنامبوكو. بعدها عاد البغدادي الى دمشق، ومن هناك انتقل إلى القسطنطينية، ودوّن مشاهداته عن رحلته هذه بالعربية في النص السابق، وقام أحد الأتراك ويدعى محمد شريف عنتابي بترجمتها للغة التركية العثمانية ونشرها عام 1871 في إسطنبول.

في هذه الرحلة نعثر على تفاصيل من حياة المسلمين البرازيليين وطقوسهم، فهم على صعيد الصيام كانوا متشددين، إذ لا يبتلعون لعابهم أثناء الصيام، ومن جهة أخرى يتساهلون به، وهو ما يتمثل بعدم التحرج من الإفطار حين الحر، دون أن يطالبوا أنفسهم بقضاء تلك الأيام الفائتة، كما ان تقويمهم للشهر كان خطأ كلياً، لأنهم كانوا يصومون في شهر شعبان بدلا من رمضان. كما وصف لنا البغدادي الحياة اليومية للمسلمين، ومنها أنهم كانوا يلقون السلام برفع القبعة، وشيوع شرب الخمر بينهم، وأنهم كانوا يضطرون لتعميد أولادهم خوفا من قمع المسيحيين، ولأن ورقة التعميد كانت بمثابة الورقة الرسمية التي تثبت وجوده أمام سلطات الدولة وتحميه من الاسترقاق. كما يذكر فكرة المساكنة الحرة بين المسلمين دون عقد. ومما لفت نظر الإمام في باهيا أن جميع النساء المسلمات كن سافرات، ولا يصمن رمضان ويذهبن إلى الكنيسة ويتصدقن للرهبان لقراءة الإنجيل.
لم يكتف البغدادي برسم صورة المسلمين هناك، وإنما خصص جزءا من رحلته للحديث عن المدن البرازيلية، وما تحتويه من عجائب وغرائب، ولذلك نراه مثلا يتحدث عن غرائب الحيوانات في البرازيل مثل أفعى السوكوري التي تبتلع الثور، والحوت الذي يكسر مراكب الصيادين، وطيور الببغاء (يسميها بغبغان)، كما يورد تفاصيل عن المدن البرازيلية التي زارها تتضمن معلومات عن عدد سكانها وجغرافيتها. وهنا نرى حضورا للغة الصحافية في المواضع التي ينقل بها المؤلف معلومات عن المكان الذي ينزل فيه، فكأنه جمع قصاصات من الجرائد وأعاد كتابتها بخطه، فالدقة في تحديد الأرقام وذكر تاريخ المدن التي يزورها يوحيان بالتقرير الصحافي أو الريبورتاج. فعلى سبيل المثال يصف إقليم دولة برازيليا وهي ما يقابل دولة البرازيل الآن، كما تحدث عن تاريخ الدولة وبنائها ونظام حكمها وعدد سكانها ونهرها العظيم (الأمازون)، ولم يخلُ تأريخه من الخيال الشعبي، مثل فكرة سكن الجن لتلك البلاد قبل أن يسكنها أحد من البشر. ويمكن القول إنه مع صدور هذا الكتاب وتحقيقه عربيا في أكثر من طبعة، نجد أنفسنا أمام نص فريد وعجيب كتبه عالم دمشقي عن البرازيل في وقت مبكر، وحاول من خلال إيراد تفاصيل تاريخية وأنثروبولوجية عديدة عن هذا البلد.

بعد مئة سنة وأكثر:

واللافت أنه بعد مئة وخمسين سنة تقريباً من هذه الرحلة، كانت الصدفة ربما أو القدر، هو من سيقود باحثة سورية، لإعادة اكتشاف قراءة نص البغدادي بعيون جديدة. فخلال زيارة المؤرخة أحمدية إبراهيم النعسان لجزء من عائلتها في البرازيل 2014 ـ 2015، وبالمناسبة هناك الكثير من العائلات السورية ممن لها فروع في البرازيل، عثرت في مكتبة أختها التي كانت تعد أطروحة عن الجالية السورية في البرازيل، وهي جالية يعود تاريخ وجودها لأكثر من مئة عام تقريبا، على نسخة جديدة محققة من كتاب البغدادي بتحقيق باولو دانيال فرح، الذي يعمل أستاذا للفلسفة في جامعة سان باولو، والذي عثر على المخطوطة في مكتبة برلين بعد ثلاث سنوات من البحث والتقصي، لتقوم لاحقا مكتبة أمريكا الجنوبية ـ الدول العربية بنشر تحقيقه باللغات العربية والبرتغالية والإسبانية. وبعد قراءة هذه النسخة، قررت النعسان المضي قدما والاطلاع على النسخة العربية الأصلية، لتقوم على إثر ذلك بتحقيق المخطوطة من جديد (صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2024) في سياق مشروع ابن بطوطة لأدب الرحلات.
وبالتوازي مع هذا التحقيق، نشرت أيضا كتابا ضخما بعنوان (عثماني في البرازيل: دراسة في رحلة عبد الرحمن البغدادي الدمشقي إلى البرازيل في القرن الـ19، المؤسسة العربية للدراسات والنشر). وفي هذا الكتاب قررت إعادة وضع رحلة البغدادي في سياق تاريخ أوسع، كما أنها تمكنت من إعادة تقميش هذه الرحلة، والكشف عن تفاصيل جديدة منها، وربما الأهم من ذلك، أن النعسان كشفت من خلاله عن قدرة باحثة عربية على استخدام مفاهيم وأدوات معرفية جديدة في قراءة المخطوطات، ما مكنها من تصحيح رواية البغدادي نفسه للأحداث، وأيضا الكشف عن نوايا وأجواء ربما لم يفضل الحديث عنها في نصه.

عالم رحلة البغدادي:

بعد أن تولى السلطان عبد العزيز، عرش السلطنة حاول إصلاح دار الصناعة والترسانات المنتشرة على ضفاف البوسفور، وفتح مدرسة للفنون البحرية. وبفضل هذا التوسع استطاع عبد الرحمن البغدادي الحصول على وظيفة إمام في رحلتين متجهتين الى البصرة. ومما تعتقده النعسان أن هذه الرحلة لم تكن مجرد رحلة عادية، وإنما جاءت في سياق محاولة إعادة تشكيل الأسطول البحري العثماني، الذي أخذ على عاتقه إعادة توحيد الإمبراطورية العثمانية تحت نظام مركزي. ولذلك فإن الرحلة نحو البصرة، بدا أن الهدف منها العمل على ربط بغداد والبصرة بالسلطة المركزية في الأستانة للتخلص من الحكم المحلي لأن ولاءه غير مضمون. في موازاة هذه الأجواء، يبدو أن هناك شكوكا تحوم حول البغدادي ذاته، وتتعلق بمشاركته في ما عرف بالطوشة في دمشق 1860، التي أودت بحياة ثلاثة آلاف مسيحي على يد مسلمين من داخل المدينة. وعلى الرغم من ان المؤلفة ومن خلال مهاراتها في البحث داخل الأرشيف العثماني، لم تعثر على ما يشير لهذا التورط، لكن ربما نميل إلى أن البغدادي، كما حال معظم رجال دين دمشق آنذاك، كانوا مؤيدين ضمنيا لما حدث، ولعل ما يدعم أن البغدادي لم يكن متورطا بشكل مباشر هو تعيينه إماما من قبل الدولة في إسطنبول. كما يبدو البغدادي في هذه الفترة عثماني الهوى والانتماء، وهذا طبيعي في زمنه، وفي مدينة مثل دمشق مقارنة بالقاهرة، فهو يبدو ميالا للرابطة العثمانية التي تضم المسلمين تحت سيادة السلطان العثماني، وما يدعم ذلك مدحه للسلطانين عبد العزيز وعبد الحميد الثاني.
ومن الأشياء المهمة في بحث المؤلفة أنها لم تكتفِ فقط بقراءة مخطوطة البغدادي بنسخها المتعددة، بل نراها تذهب إلى قراءة مذكرات موازية عن هذه الرحلة، ومنها مذكرات مهندس السفينة التي حملت البغدادي، ويدعى فائق وصدرت بالعثمانية سنة 1868 بعنوان «أول رحلة أمريكية للبحارة الأتراك» وقد دون فيها معلومات مهمة عن رحلة البغدادي وموعدها وحيثياتها وما فعله الجنود في الاستقبال والوداع.
من الأمور التي لا نراها في كتاب البغدادي، أن العلاقات العثمانية البرازيلية كانت تبدو ودية آنذاك، فقد زار الامبراطور البرازيلي بيدرو الثاني السفينة، وهو ما ترده المؤلفة لكونه كان يبحث عن أفكار جديدة تساعده في حربه ضد الباراغواي، خاصة أن السفن الباراغوانية كانت أقوى من سفن البرازيل النهرية البسيطة، ولذلك حاول التعرف على استراتيجيات العثمانيين وطريقة بنائهم لأساطيلهم الجديدة من خلال زيارته للسفينة. نفهم من خلال وثيقة محفوظة في الأرشيف العثماني، أن البغدادي كان يحصل على راتب من الدولة أيام إقامته في البرازيل، كما أنه طالب بمعاش آخر لقاء تأليفه أثراً عن رحلته، وهو ما يأتي في سياق سياسات العثمانيين ربط المسلمين بالدولة العثمانية، ولذلك تعتقد المؤلفة أنه خلافا لما حاول البغدادي قوله في مخطوطته، من أن قراره بالبقاء في البرازيل جاء كمبادرة شخصية منه، فإن التفاصيل السابقة، سواء في حصوله على راتب، أو في سياسيات العثمانيين للاتصال بالمسلمين الآخرين، تظهر أن قراره لم يكن شخصيا، وإنما بدا متأثراً بهذه الأجواء، دون أن يعني ذلك بالضرورة وجود قرار عثماني مباشر، إذ ربما بعد أن قرر البغدادي المضي قدما في مبادرته، وجد العثمانيون أنه لا بأس من دعم رحلته، ولا بد أن البغدادي تأثر بأجواء التقارب بين البرازيليين والعثمانيين. ولعل ما يدعم هذا الاستنتاج، ما يورده البغدادي في مكان آخر، إذ يذكر في أحد مواضع مخطوطته العبارة التالية: «كم خطر لي الذهاب إليهم لألقي دين الإسلام عليهم فيمنعني المسلمون ويقولون إن هذه الأمم (البرازيليين) لا تقبل، لاسيما أنك لا تعرف لسانهم، فربما يبطشون فيك فدع ما لا يعنيك، لئلا ترى ما لا يرضيك». وفي هذه العبارة حاول البغدادي القول إن مبادرته الشخصية، جاءت رغم كل الظروف القلقة التي تحيط بها، وبالأخص الخوف من اعتقاله من قبل البرازيليين الذين قمعوا المسلمين ، إلا أن مذكرات المهندس العثماني الآخر تكشف لنا أن هناك مبالغة أيضا في كلام البغدادي، فوفقا لمذكرات المهندس فائق، نرى أن الحكومة البرازيلية كان تعلم بأمر البغدادي، وأنها هي من قدمت له أرضا وتكريما يليق بمقامه، وأنها ربما سمحت له بنشاطه الديني، كونها كانت تحاول التقرب من الدولة العثمانية، ولأن نشاطه لم يتجاوز ما هو ديني، وبقي محصورا بتعليم المسلمين طقوسهم، وهو أمر يبدو أن البرازيليين كانوا قد تساهلوا فيه بعد سنوات من قمعهم للمسلمين. الأهم في هذه الرواية وتناقضاتها، هو أنها تكشف لنا أن عالم الرحلات القديمة والمخطوطات، بقدر ما أن الكشف عنها مفيد من عدة مستويات تاريخية، فهو أيضا قد يكون مدخلا للتدرب على قراءة نصوص الماضي بعيون مختلفة وحذرة، وهو ما نعتقد أن النعسان قد نجحت فيه بشكل كبير وممتع، وربما هو ما جعلها تستحق جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة ـ فرع الدراسات 2023 ـ 2024، فهنيئا لها ولنا بتحقيق هذه الرحلة، وإعادة تقميشها أيضاً.

 كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب