رئاسيات أمريكا والصوت اليهودي: أبعد من أطرش في الزفّة!
رئاسيات أمريكا والصوت اليهودي: أبعد من أطرش في الزفّة!
صبحي حديدي
لا تستنكف هذه السطور عن استعادة حكاية أمريكية، تسرد بامتياز علاقات التأثير بين مجموعات الضغط اليهودية ومختلف المراتب على هرم القرار الأعلى في الولايات المتحدة؛ خاصة في مواسم الانتخابات. ولا يُنقص من مغزى الواقعة أنها تعود إلى مطلع القرن الـ20، ولا يلوح أنّ الزمن عفا عليها من حيث جوهر التأثير والتأثر.
ففي سنة 1901 انتُخب الجمهوري ثيودور روزفلت رئيساً للولايات المتحدة، على خلفية شعار كبير جذاب يقول بمحاربة مجموعات الضغط أيّاً كانت طبيعة نشاطاتها؛ اقتصادية كانت أم سياسية، إثنية أم دينية. وحين أعلن روزفلت تعيين اليهودي أوسكار شتراوس وزيراً للتجارة والعمل، سارع الصيرفي جيكوب شيف (عميد يهود أمريكا آنذاك) إلى إقامة مأدبة عامرة احتفالاً بالمناسبة، كان روزفلت ضيف الشرف فيها. ولقد ألقى الأخير كلمة احتوت فقرة تقول: «لم أعيّن شتراوس لأنه يهودي. ولسوف أحتقر نفسي لو وضعت بعين الاعتبار مسائل العرق أو الدين عند اختيار رجل لمنصب رفيع. الجدارة، والجدارة وحدها أمْلَت هذا التعيين».
وحين توجّب أن يلقي شيف كلمته، لم يتنبه أحد إلى ضرورة إعلامه (وهو الأطرش!) بما قاله الرئيس لتوّه، فبدأ هكذا: «لقد استدعاني السيد الرئيس قبل تشكيل حكومته، وأعلمني برغبته في تعيين يهودي في الحكومة، وطلب منّي أن أسمّي الرجل الذي يُجمع اليهود على اختياره. ولقد أعطيته اسم أوسكار، فعيّنه، ولم يخيّب الرئيس آمالنا»! وتقول بقية الحكاية إنّ الحضور صفّقوا بعصبية وارتباك، وأمّا الرئيس الـ 26 للولايات المتحدة فقد امتقع وجهه، ولم يملك سوى الحملقة في الفراغ.
وقد يحقّ للبعض التساؤل عن منابع هذا التأثير العارم، الهائل والحاسم في أمثلة غير قليلة، رغم أنّ أدقّ الإحصائيات وأحدثها لا تشير إلى نسبة لليهود تتجاوز 2,4% من عدد سكان الولايات المتحدة، بمعدّل فعلي يقارب 5,8 مليون من أصل 337 مليون نسمة. وأمّا أعداد حَمَلة الجنسية المزدوجة، الأمريكية والإسرائيلية، فلا تتجاوز 190,000 حسب تعداد شبه رسمي يعود إلى سنة 2020؛ رغم أنّ البعض يفترض، بحقّ، أنّ العدد قد يكون أكبر.
غير أنّ الصوت اليهودي، واليهودي/ الإسرائيلي خاصة، أبعد ما يكون عن حال الأطرش في الزفّة، كما تسير الاستعارة الشهيرة؛ أو هو، في مقام المقارنة التاريخية، لم يعد يعاني من غفلة شيف أمام روزفلت أوائل القرن المنصرم؛ والدليل الراهن، قبل أيام تسبق موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ماثل في خطاب المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب أمام الاجتماع السنوي للقمة الوطنية التي يعقدها «المجلس الإسرائيلي ـ الأمريكي»: إذا خسرتُ هذه الانتخابات، قال ترامب، فإنّ الصوت اليهودي سوف يكون مسؤولاً جزئياً عن هذه الخسارة.
وصحيح، بالطبع، أنّ ترامب كان يتعمد التهويل جرياً على عادته، وأنّ احتمال خسارته الانتخابات يعود إلى عوامل أخرى أكثر تعقيداً حتى بالمعنى التجزيئي الذي أشار إليه؛ إلا أنّ الصحيح المقابل، والأصحّ ربما، هو أنّ الصوت اليهودي في هذه الانتخابات لن ينفصل البتة عن عنصرين طاغيين: أنّ حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة جاثمة في قلب صناديق الاقتراع، وأنّ هذه هي الرئاسيات الأكثر تقارباً بين المرشحَيْن منذ 60 سنة على الأقلّ.
وفي الخضوع لهذَين العنصرين يستوي ترامب مع المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، بل تجوز إضافة عامل تكميلي ليس أقلّ حسماً لجهة تشتت الصوت اليهودي بعيداً عن الانحياز التقليدي لصالح الحزب الديمقراطي؛ أملاً في عودة ترامب: الآمر بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، ومانح السيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، وصانع اتفاقيات أبراهام التطبيعية…
أبعد من أطرش، إذن، وأقرب إلى صوت صارخ في برّية جرائم الحرب الإسرائيلية، برعاية أمريكية.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس