شبه عارية في طهران.. صورة أخرى في الألبوم
راشد عيسى
الصور الوحيدة التي تكاد تطغى على أخبار الحرب، على مواقع التواصل الاجتماعي، في اليومين الأخيرين، هي صور الطالبة الإيرانية آهو داريائي، إثر ظهورها شبه عارية، في أكثر من فيديو، في تحدٍّ صريح للسلطات الإيرانية، التي لا تتسامح عادة لمجرد انزياح الحجاب عن مكانه، فما بالك بالتعري.
وحسب أخبار تناقلها مختلف الوكالات المعروفة، يبدو أن الطالبة الجامعية الإيرانية تعرّضت في الأساس لمضايقات من عناصر الباسيج بسبب عدم التزامها الدقيق بالملابس المفروضة بشكل صارم، ما دفعها للاحتجاج على المضايقات بالتعري.
بدت الطالبة الإيرانية كأنها العنصر الوحيد الملون تقريباً في مشهد بالأبيض والأسود والرمادي
تظهر الشابة، عبر فيديو التُقط من مبنى مجاور، ومن طابق علوي يتابع أدقّ تحركاتها، شبه عارية، جالسة في البداية على حافة درج على شارع، وبدت كأنها العنصر الوحيد الملون تقريباً في مشهد بالأبيض والأسود والرمادي. تتمشّى بهدوء، ولا بدّ أنها كانت تعرف الخطوة التالية. وهذا ما يصوّره فيديو آخر يتابعها فيما تبتعد على طول شارع إلى أن يحاصرها عناصر الأمن ويلقون بها في سيارة.
على الفور سينتشر الفيديو، وستُقتبس منه صورٌ، وتُبنى عليه تصاميم، ورسوم كاريكاتيرية، ومن بين أبرز المقاربات صورة رجل الدبابة في الصين، تلك التي التُقطت خلال الاحتجاجات في ساحة تيانانمن، في عام 1989، وهي تُظهر رجلاً واقفًا في مواجهة رتل من الدبابات متحدياً تقدّمها.
كان الفيديو الإيراني مناسبة لاستعراض دقيق لصورة رجل الدبابة، الذي بات رمزاً للمقاومة الفردية السلمية. الرجل، الذي لم يُعرف مصيره تالياً، ولا هويته، وقف ببساطة إنسان، على نحو مذهل ببساطته، حاملاً بيديه كيسين لحاجيات، كما لو أنه إثبات، بالمصادفة، أن الرجل وقف أمام الدبابات من دون تخطيط مسبق.
يلوّح الرجل بأكياسه للدبابات آمراً إياها بأن تبتعد، وحين تحاول الدبابة الانزياح عنه لتكمل طريقها، يتسلّق الدبابة وصولاً إلى برجها، ثم نسمع إطلاق نار قريب، كان يقصده على ما يبدو، وهكذا إلى أن تأتي مجموعة من الشبان يحيطون به، ويدفعون به بعيداً.
ينتهي ذلك المشهد، لكنه سينتشر في وجدان العالم على نحو واسع وراسخ، وكلما عملت السلطات الصينية على محو الفيديو والصور بات العالم أكثر عناداً بالاحتفاظ بواحدة من الصور التي باتت تشكل التاريخ، على ما عنونت مرة «لوموند» الفرنسية، في عدد خاص بصور، بعلامات للتاريخ.
إذن فقد حاز الرجل الصيني الغامض على من يحنو عليه، ويُنجده في لحظة من رتل الدبابات ووحشيتها، أما في مشهد الطالبة الإيرانية فتبدو وحيدة تماماً، في وسط معادٍ، أو محايد، أو متلصص، لم تحظ بفرصة حنوِّ حشدٍ يلتمّ حولها فيأخذها بعيداً عن مصير لا بدّ أنه سيكون أكثر توحشاً من رتل دبابات. وربما على العكس من مصور الفيديو الصيني (لم يكن أقل شجاعة في الواقع)، الذي عاش لحظات رعب حقيقية فيما يلتقط صور رجل الدبابة، وصولاً لتسليم الصور لمؤسسته الصحفية الأجنبية، يبدو أن مُلْتقِطات الفيديو كنّ يتابعن المشهد بمرح، كما تُظهِر أصواتُهن. إنه مشهد غريب ومستهجن وحسب بالنسبة إليهن.
لا تستعاد صورة رجل الدبابة من دون استعادة صورة أخرى شهيرة، ولكنها هذه المرة لطفل الدبابة، الفلسطيني فارس عودة الذي يعرفه العالم بصورة يرمي فيها حجراً على بعد خطوات من دبابة الميركافاه الإسرائيلية، في العام 2000، صورة حامت أرجاء العالم هي الأخرى، فيما غاب بطلها عندما استهدفه رصاص جيش الاحتلال.
الطالبة الإيرانية تبدو وحيدة تماماً، في وسط معادٍ، أو محايد، أو متلصص، لم تحظ بفرصة حنوِّ حشدٍ يلتمّ حولها فيأخذها بعيداً عن مصير لا بدّ أنه سيكون أكثر توحشاً من رتل دبابات
لم يمض وقت طويل حتى يدهم البنت الإيرانية المصير المحتوم، وتندلع الأخبار والتفاصيل، الأبرز بينها تصريح السلطات الإيرانية بأن الطالبة تعاني وضعاً نفسيا مضطرباً، وأنها زجّت على إثر حادثة التعري في مشفى للأمراض العقلية.
ستكون حادثة الطالبة الجامعية أول اختبار لتعهّد الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان بالحؤول دون مضايقة شرطة الأخلاق للنساء في ما يتعلقّ بلباسهن، خصوصاً الحجاب الإلزامي، على ما قال، في سبتمبر أيلول الماضي: «شرطة الأخلاق ليست مولجة مواجهة النساء، وسأحرص على ألا تقوم بمضايقتهن».
مثلما في الاحتجاجات التي جاءت إثر مقتل مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، تثبت الإيرانيات عناداً استثنائياً حقاً. ومن الواضح أن الأمر لا يتعلق برغبة مجانية بخلع الحجاب، أو بالتعري، فالمطالب ليست جنسية هنا، إنما تَحَوَّلَ الحجاب، والملابس، وكل ما يتعلق بالجسد، إلى رمز للاحتجاج السياسي.
الاحتجاج بالتعري حتى في الغرب استثنائي، ولو أنه يتكرر من وقت لآخر، فما بالك في إيران.
خطوة الطالبة الإيرانية (في جامعة أزاد في طهران) هائلة، وفي منتهى الجرأة، مثل خطاها البطيئة والمتحدية، كما ظهرت في الفيديو. لا تعرف حقاً إن كانت تنطلق من قوة الأمل، أو من تلك الطاقة غير المتوقعة التي يختزنها اليأس أحياناً.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»