
الكتاب الأخير لخالد خليفه: عن حلم صغير تحقّق مرة واحدة

حسن داوود
هم مجموعة أفراد التقوا على ما يختلف عن الحياة التي يعيشها الآخرون. شبّان وشابّات التقوا على أحلام تشاركوا بها وكان أول تحقّق لها إقامتهم حفلا موسيقيا وغنائيا في كنيسة. كان ما جرى في تلك الأمسية إنجازهم الوحيد، إذ ظلّت ذكراه تلازمهم بعد أن تفرّقوا كلا في اتجاه. كأن الحياة التي عاشوها من قبل، وسيعيشونها من بَعد، تعلّقت بذلك الحدث الوحيد. ربما كان هذا قدر جميع من عاشوا، كمجموعة، في تاريخ مدينتهم. لكن، في ما خصّ هؤلاء، الذين ولدوا في ستينيات القرن الماضي وعاشوا، أكثر ما عاشوا، في ثمانينياته، هناك أسباب أخرى كثيرة تُرجع خيبتهم إلى المدينة، وإلى البلد، الذي من المفترض أنهم أبناؤه.. الجيل الذي سبقهم، ومنه أمهات وآباء وعمّات، نالهم نصيب هم أيضا من الهزيمة والأحباط والكراهية.
إحدى هؤلاء القريبات، وهي العمّة جورجيت، أعادت تجهيز غرفة البصاق التي كانت لأمها، وهي، بفعلتها تلك، كرّست ذلك التقليد في أوساط أخريات أقمن في بيوتهن، مثلها، غرفا مماثلة.
المجموعة الشبابية التي التقت على حبّ الموسيقى والحالمة بتحقيق إنجاز يتعدّى حفلة الكنيسة، توقّف طموحها، كما تبعثرت معه علاقات الحب التي نشأت بين أفرادها. لقد دفعت المدينة بعضهم إلى خارجها. يارا قصدت كندا، وماريانا ارتضت الزواج من رجل حملها إلى بوسطن لتضجر هناك منتظرة أن تتمكن من العودة إلى عالمها في اللاذقية. أما سام حبيب ماريانا فامتصّته المدينة التي استسهل العيش فيها معتمدا على فساد عمه وسطوته، وهو الضابط الكبير. وإذ تتمدّد الرواية إلى ما يتعدّى القريبات والعمات، لتصل إلى الأخوة، نقرأ كيف أن أخوات تحوّلن إلى ممارسة البغاء وأخوة راقهم العمل في تعذيب السجناء، حتى بلغ شقيق يارا، المولع بتعذيب السجناء وقتلهم مراحل الجنون الأخيرة. وفي الرواية يحظى الأقارب، الذين يفترض أنهم ثانيون، بما حظي بها أشخاص المجموعة الموسيقية ذاتها، أعني مَن هم أبطال الرواية. لم يجر ذكرهؤلاء الأقارب والأخوة لمجرد توسعة المجال السردي، كما لإضافة رتوش على حياة أبطال الرواية.
فالأخ والأخت، وكذلك العمة والأم والجد، إلخ، حظوا بحضور درامي، بل تراجيدي، كاملين.. لا شخصيات ملحقة إذن، فكل من تأتي به الرواية إلى سياقها تعمل على جعله بطلا من أبطالها. المدينة أيضا، تلك التي انقلبت على ما كانت عليه، والتي يلاحظ أن أكثر ما يدفع تلك الفرقة الموسيقية إلى التشتت عائد إلى تغيّرها. لم تعد اللاذقية كما كانت.. رائحة الكراهية التي تفوح في جميع أرجائها لا تفتأ تنتشر وتعمّ. حين ترغب ماريانا، في مرحلة أولى من حياتها الأمريكية، في الرجوع إليها فإنما ليس إلى الزمن الذي أدّى بها إلى الرحيل، بل إلى الزمن الذي قبله. هو الزمن المتخيّل التي صنعته الذاكرة المجمِّلة، لا زمن الأهل الذي لا يقلّ وحشيّة عن زمن أبنائهم، لأن جيل الأهل هذا هو جيل حداثة سبقت، كأن تتظاهر عمّة ماريانا وأم موسى من أجل أن يتوقف مشروع إقامة البناء الذي سيطيح بالأوتوستراد الغربي، وكذلك الدفاع عن السلاحف البحرية. وحده الجدّ في الرواية، جدّ موسى أحد أفراد المجموعة، ظلّ مقيما في ماضيه عازفا عن خيارات الجيلين اللذين أعقباه.
«الحياة هنا كابوس حقيقي وفعل رذالة…» تقول ماريانا في جزئها الخاص من الرواية، «هي فعل محو لا فعل كتابة، فكلما طالت قائمة الممنوعات أصبح كل شيء جميلٍ جزءا من الماضي»، أو جزءا من مساحة الذاكرة التي أدمن بعضهم العيش فيها. ففي مراحل متوالية من الرواية يعود الكلام إلى الذاكرة: «العيش في الماضي لم يكن أمنية بل طريقة حياة». روني ويارا، وهما عاشقان من تلك المجموعة، كان يجب أن يمرّ على ألبستهما، قمصانهما أو أحذيتهما، جيلان لكي ترضيهما. وروني هذا، في عيشه، «لا يزاحم أحدا، لأنه حتى حصّته من الأوكسجين يأخذها من أزمنة ماضية».
***
رحل خالد خليفة من دون أن يرى روايته مطبوعة في كتاب. تركها لقرائه، رواية كبيرة ومتسعة المساحة، تحكي سيرة جيل أحبطه كل ما جيء به إلى حاضر المدينة. ذلك الجيل الذي، وإن اشترك في أحلامه، وهزيمته تاليا، إلا أن من ترافقوا فيه ظلوا مختلفين مزاجا ومنشأً وعيشا. وقد ذهب خالد خليفه بعيدا في ما يتميّز به أبطاله بعضهم عن بعض، متيحا لخمسة منهم أن يتوّلوا السرد، مركزا على التجربة الفردية لكل منهم، لكن من ضمن ما يجمعه بالآخرين. هي رواية كبيرة إذن، بعالمها المتسع العريض، لكن الذي لم يتوقّف عن أن يكون محتفلا بالكتابة، في كل فقرة وكل كلمة.
كاتب لبناني