محنة الإعلام والأدب في قضية بوعلام صنصال وكيف يجتمع اليمين مع اليسار في الجزائر!
غادة بوشحيط
يندر أن يتساوى تريندان باللغتين العربية والفرنسية في فترة واحدة وحول شخص واحد، في الجزائر وفرنسا. كان السبق من نصيب «ابن المحظوظة»، و»يتيم الأدب الجزائري» بوعلام صنصال، السبعيني المثير للجدل، وإن كان معروفا في الأوساط الثقافية، فقد ظل مجهولا لدى الجمهور الواسع حتى الأيام الأخيرة.
«2084 : نهاية العالم»، «قسم البرابرة»، «القرية الألمانية» وغيرها هي عناوين لروايات كانت لتكون عظيمة لو اختار صاحبها خطابا أقل انخراطا أيديولوجيا، ومساءلة الواقع والتاريخ بغير نظارات التجربة الشخصية الضيقة (العشرية السوداء الجزائرية، وما تلاها من صعود للإسلاموية في أوروبا بعد أحداث 11 سبتمبر /أيلول)، عناوين لم يسبق أن أثارت الجدل داخل الجزائر، بل بيعت ولا تزال، بعضها شكك حتى في ثورة التحرير مقيما تناظرا بين النازيين والأبطال الذين ساهموا في تحرير البلاد التي يحمل جنسيتها، ولا حتى زيارة سابقة لإسرائيل، لم تكف لترفع أسهم الرجل بين رواد الـ»سوشيال ميديا» بقدر ما فعل الجدل الذي تسبب فيه أمر سجنه، وما فرخه من سجالات في الجزائر وفرنسا وبين الجزائر وفرنسا.
تداول اسم الرجل في الجزائر بدأ مع إعلان بعض رموز اليمين المتطرف الفرنسي كإيريك زمور شعورهم بالقلق إزاء اختفاء الرجل لقرابة الأسبوع، زاد التفاعل معها بعد تأكيد جهات رسمية جزائرية خبر اعتقاله في مطار العاصمة دون كثير تفاصيل.
على الجانب الجزائري، بدت صحائف الرجل السوداء جاهزة، وإن لم تخطئ مادتها، فمواقف الرجل لا تحتاج لتأويل، ثم الحوار الذي أجراه مؤخرا مع صحيفة «فرونتيير» اليمينية المتطرفة بدا كلمسة إضافية مثيرة للشفقة على لوحة بائسة بالأساس، وهو يشكك في شرعية حدود البلد الغربية. لكن مواقف رواد الـ»سوشيال ميديا» بدت متباينة، أعاب البعض على السلطات الرسمية إيقافه، هو الذي «حظي بمجد» لا يستحقه، آخرون أكدوا مشروعية ما أصابه، وأنه تجاوز حدود المقبول بتطاوله على سيادة البلد، كثر اعتبروا أن ما اقترفه جزء من مخطط مدبر للإضرار بصورة الجزائر. كثر من الكتاب عبروا عبر صفحاتهم الرسمية عن أسفهم للمطالبة بإطلاق سراحه مضطرين، في حين ينبذون مواقفه وكتاباته.
على الجانب الفرنسي تحول الإعلام اليميني لقائد حملة القلق على «كاتب الأنوار» و»المواطن الفرنسي» في رحلته «في بلاد الظلام» ذلك ما عبر عنه سياسيون، صحافيون، محسوبون على توجهات سياسية معينة، كما نال شرف الدفاع من أسماء مرموقة، منها حاصلون على نوبل، كلوكليزيو، آني إيرنو وغيرهما من خلال توقيعهم على عريضة لإطلاق سراحه الفوري، امتثالا لطلب الكاتب كمال داوود، قبل أن يطرق القلق قلب رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون بـ»ذات نفسه» ويعبر عنه علانية.
سرعان ما انتقل القلق من الميديا اليمينية إلى الميديا العمومية، ويتسبب برنامج «سي بوليتيك» الذي يعرض على القناة التلفزيونية الخامسة في حملة شرسة على كاتب ومحلل سياسي فرانكو جزائري يدعى نجيب سيدي موسى. الطاولة التي اجتمع حولها كتاب وصحافيون ومؤرخون، شهدت إجابات متباينة، وأخبارا حصرية. المؤرخ الفرنسي ذو الأصول الجزائرية اليهودية: بنجامين ستورا، أكد أن حديث صنصال عن انتماء تاريخي للأراضي الغربية الجزائرية لمملكة المغرب هو الهراء بعينه، مستدلا بشخصية الأمير عبد القادر القادم من معسكر غرب البلاد، وهو المؤسس الحقيقي للدولة الجزائرية الحديثة، وأن الأب المؤسس للحركة الوطنية الجزائرية هو مصالي الحاج القادم من تلمسان غرب البلاد أيضا. ساق «ستورا» بعد دفاعه الهادئ، خبرا حصريا، بإعلانه قضاءه (وعائلته) سنوات في فيتنام بمساعدة من الأجهزة الأمنية الفرنسية بعد تعرضه للتهديد خلال العشرية السوداء الجزائرية، عند محاولة نقل الجماعات الإسلامية المسلحة أعمالها إلى فرنسا (والتي قايضتها بعدها بسحب الدعم عن النظام الجزائري مقابل كف الأعمال على التراب الفرنسي حسب ما يذكره مؤرخون)، ويضيف أنه لم يستغل يوما هذا التهديد الحقيقي للتسويق لأفكار يمينية متطرفة، مؤكدا أن التأريخ هو وسيلة لمد جسور، بعد مطالبات الحاضرين بموقف حاسم، الأمر الذي رفضه، كما سيدي موسى ذو التوجهات اليسارية الصريحة.
الشاب حاول إثبات التوازي بين مواقف صنصال وصعود اليمين المتطرف، الذي يتخذ من العلاقة المتوترة إزاء المشترك التاريخي مع المستعمرة السابقة مطية، وانعكاس ذلك على الأزمات الداخلية الفرنسية في علاقتها مع الهجرة وأبناء المهاجرين. صاحب كتاب «تاريخ جزائري لفرنسا» حاول تفكيك مسارات كل من صنصال وداود، التي تترسخ ضمن خطاب وأيديولوجيا سائدين في فرنسا، مع تكرار الإشارة لما يحدث في الشرق الأوسط ودوره في صياغة آراء الناس حول الكاتبين، مكررا تأكيده رفض سجن الكاتب، أمر لم يشفع له وبدرجة أقل لستورا».
لم يكد العدد ينتقل إلى منصة يوتيوب حتى وجد الشاب اسمه مادة لتريند شنيع على وسائل التواصل الاجتماعية في فرنسا، تهمته: الاسلاموية -اليسارية، وهي أكثر تهم اليمين الفرنسي جهوزية منذ فترة (وإن انطبقت على جزء من اليسار الفرنسي. تساءل بعض مذكي المحرقة عن مصدر شهاداته العلمية (دكتوراه من السوربون في العلوم السياسية، لم تأهله الحصول على منصب في الجامعة ككثر من أبناء المهاجرين). طالب البعض بتوقيفه عن مزاولة التدريس في المدارس الفرنسية إذ يضر طلابه، في حين تمنى له كثر عودة طيبة للجزائر (التي لم يطأ ثراها منذ سنوات)، التي يتقاضى من نظامها، حسبهم ثمنا جيدا حتى يتطاول على «جهابذة الأدب الفرنسي الجدد». شتائم وتهم قذفتها أسماء يمينية فرنسية متطرفة ضد المؤرخ الشاب، سرعان ما تحولت لحملة كراهية موصوفة.
لا شك أن ملف الذاكرة من الملفات الثقيلة بين الجزائر وفرنسا، كما أن المشاكل بين الجزائر ومحيطها المباشر لأمر مؤرق، لكن محاولة بناء صورة عامة للأحداث، تجعل الجزائري يخرج باستنتاج، وهو تراجع أداء القوى الناعمة للبلد. الوقوف عند «الصنصال غايت» يحيل إلى تحولات عميقة في الساحة الفكرية الجزائرية.
كان الروائي رشيد بوجدرة قد أصدر من سنوات عنوانا هز به البلد، كتاب هجاء «زناة التاريخ» تهجم فيه على الكثير من الأسماء الأدبية المعروفة في البلد على رأسها كتاب فرانكوفونيون، من بينهم كمال داوود، الذي أعرب عن تفاجئه حينها مما فعله صديقه رشيد، كما صنصال، الذي فضل الهدوء، بل خرج مستفيدا من إشهار مجاني، أتاه كاتب كبير. يومها لم تكن السوشيال ميديا بهذا الحضور الطاغي، ولم يكن الجزائريون بهذا التفاعل الكبير معها، كما لم يكن الإعلام الجزائري بهذا الأداء الهزيل، ولا اليمين كان بهذه السطوة، ولا العالم بهذه البوصلة المكسورة.
السردية النيوكولونيالية واقع، وتحولات السردية التحررية، بل تراجعها واقع أيضا، لا مجال للخوض في أسبابها، ولا للنكران، ومشروع صنصال متوقع في هذا السياق، لكن غير المقبول تماما أن تغيب عن بلد بحجم الجزائر استراتيجية ناعمة، فعالة، قادرة على الاستباق واحتواء أبناء البلد الواحد بكل طاقاتهم، وتقف بانتظار دفاع مؤرخ (كبير لا شك في الأمر) ذي أصول يهودية جزائرية وآخر منبوذ لأصوله المسلمة الجزائرية وأفكاره المناوئة لتقديم شيء من الحقيقة على قناة تلفزية أجنبية.
٭ كاتبة من الجزائر