الحضارة المتنحية والحضارة المتفوقة -الاجزاء الاربعة –
نزار السامرائي -العراق –
يمكن أن يكون اختيار مصطلح “حضارة” بين ما شهده الشرق في عصور ما قبل الميلاد وما أعقب ذلك بعدة قرون، و”التقدم” الذي يعيشه الغرب منذ بداية عصر النهضة وحتى الآن، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، غير جائز، لأنها مقارنة بين شئين مختلفين تماماً، ولكن لضرورات آنية لم أجد بداً من استخدام هذا المصطلح، الذي يشير إلى تراكم كمي ونوعي عبر حقب طويلة، وتوارثته الأجيال المتعاقبة، وتم الاصطلاح عليه دوليا باسم الحضارة، وهو ما ينطبق على ما يشهده العالم الغربي من قفزات تكنولوجية تحقق في كل سنة، ما يساوي حاصل جمع نوعي لما تحقق قبله في عقد من الزمان.
_______
ربما هو ليس حكما قاطعاً في كل الأحوال، ولكن بشكل عام يلاحظ دارسو التاريخ والمهتمون ببعض صفحاته، أن معظم الأمم التي أنتجت حضارات عظيمة قديمة، ظلت تعيش على أمجاد الماضي، وليست قادرة على تخطيه، إما لنزعة دينية متزمتة غير قادرة على الانفتاح على التيارات الفكرية الجديدة أو الابتكارات التكنولوجية، ولا تأخذ بأسباب التطور، بل تركن إلى تفسيرات جامدة لا تتلاءم مع الإنجازات الفكرية والعلمية الحديثة، وإما لعوامل أخرى تتعلق بسيكولوجية الأفراد والجماعات في مجتمع ما غير القابلة للتكيف مع أي جديد، وتعتبر خزينها القديم من التقاليد والأعراف الاجتماعية شيئاّ مقدسا، وتعتبره رصيداً كافيا تنابز به الأمم الأخرى، فهي تفاخر بحقب تاريخية موغلة في القدم ومن حقها أن ترجع إليها بديلا عن مواكبة عجلة التطور الإنساني اللامع التي تحقق في نصف القرن الأخير كما لم ينجزه العقل الإنساني منذ مئات السنين.
ونستطيع أن نقول بلا تردد أن التجارب السابقة، لا تعود إلى نفس الأصول العرقية للأجيال التي تعاقبت على العيش في إقليم معين، وربما كانت الأعراق التي بنت حضارات الماضي قد انقرضت أو اختلطت دماؤها مع دماء الأجيال اللاحقة نتيجة التزاوج بين الأقوام المختلفة، بل من حقنا أن نقول إن ما أنجز في مراحل التاريخ المتعاقبة، كان حصيلة تلاقح حضاري بين أمم غالبة وأمم مغلوبة عاشت في إقليم واحد، وصار المنتمون إلى هذا الإقليم ينظرون إليه كشاهد على عبقرية بلدانهم، من دون النظر إلى المراحل المتعاقبة للهجرات أو الغزوات التي تعرضت لها بلدانهم.
لقد كان للهجرات المتعاقبة والتي شهدها العالم القديم، حالات صعود ونزول، وعلى العموم كانت في حركة مستمرة، تبعا لضرورات البحث عن الثروة والاستقرار المدني، أو نتيجة الغزو بهدف التوسع الإمبراطوري لدى بعض الدول التي ترى في نفسها المقدرة على ضم أقاليم أخرى إلى ممتلكاتها، أو نتيجة الظروف المعاشية التي مرت على هذه المجموعة السكانية أو تلك، نتيجة الحروب والنزاعات للسيطرة على مصادر جديدة للغذاء أو الثروة والمياه والمراعي والأراضي الأكثر خصوبة، ومع ذلك فإن للبقعة التي نشأت فيها الحضارات المتعاقبة بصْمَتها الخاصة، وكان بالإمكان تسجيلها باسم الأرض التي نشأت فوقها، ولربما ومن أجل تثبيت حقائق تاريخية من قبل علماء الآثار في خطوة بحثية، وليس من أجل تمييز حضارة عن الأخرى، لا سيما تلك التي تعاقبت في حدود دولة واحدة ضمن الجغرافيا السياسية في وقتنا الراهن، فعلى سبيل المثال نستطيع أن نميّز حضارات العراق “ميزوبيتاميا” المتعاقبة باسم الأقوام التي تعاقبت على حكم العراق، تارة باسم السومريين وتارة باسم الأكديين وثالثة باسم البابليين ورابعة باسم الآشوريين، وهكذا نلاحظ أن جميع العراقيين في دولتهم الحديثة التي نشأت عام 1920 ينظرون إلى كل الحضارات المتعاقبة التي نشأت فوق بلاد ما بين النهرين، أو في حدود الدولة العباسية، على أنها انجازاتهم وهي تخصهم جميعا، ولكل واحد منهم فيها رصيد من الفخر والاعتزاز.
لكن بعض الدول التي تمتلك إرثا حضاريا عظيما مثل اليابان والصين والهند، فيمكن النظر إلى هذه الدول على أنها الاستثناء البارز عن تلك القاعدة، فصار لزاما علينا أن نشير إلى اليابان بأنها التجربة الأكثر اشعاعا من بين التجارب العالمية بهذا الخصوص، فعلى الرغم من أن لليابان حضارة قديمة ومتصلة الحلقات لقرون طويلة، وظلت تعتز بها وبتقاليدها حتى يومنا الراهن، إلا أن اليابان تمكنت من تجاوز عقدة الحضارة المتنحية لصالح الحضارة المتفوقة (المقصود هنا القوة الأكثر اقتدارا)، ومضت في طريقها لا تلوي على شيء من تمتين علاقاتها مع الولايات المتحدة التي ضربت مدينتين يابانيتين بأول قنبلتين ذريتين عندما كانت الحرب العالمية الثانية تلفظ أنفاسها الأخيرة وتوشك أن تضع أوزارها، وربما ستكون آخر مرة في العالم التي يُستخدم هذا السلاح الفتاك، بعد التعرف على الأهوال التي تركها على الأرض والإنسان، فالتقطت اليابان فرصة التطور العلمي والتكنولوجي ولم تسمح لنفسها أن تتأخر بحجة أنها كانت تمتلك تاريخاً قديماً متألقاً في إنجازاته، وعليها أن تتمسك به وتُبقي أنظارها شاخصة نحو الماضي، دون التطلع لمستقبل لا يقل ألقاً عن الماضي ولا ينسلخ عنه، ولكنه يطمح إلى اكتساب المهارات اللازمة لنقلها من قرون ما قبل الميلاد إلى القرن العشرين والقرون اللاحقة، إذ سنلاحظ أن اليابانيين ومع كل الرصيد الضخم من الإنجازات التكنولوجية التي حققوها وتفوقوا فيها على شعوب سبقتهم في مجال الاختراعات الحديثة مثل الدول الأوربية، فإن تمسك اليابانيين بتقاليدهم الاجتماعية، لم يتزحزح عن قيمه القديمة بأي قدر من المقادير، وهذا ما عزز من مكانة اليابان دولياً واحترام تجربتها الخاصة، كبلد يحافظ على تقاليده ونجح في التلاقح بين التراث والمعاصرة، وهو ما لم ينجح أي بلد آخر بدرجة النجاح الياباني.
كما يمكننا أن نلاحظ أن الصين سرعان ما لحقت باليابان في موكب التطور التكنولوجي بعد أن شنت حروباً ضارية على كل الأديان، وبعد أن حررت نفسها من الصنمية الماركسية اللينية الماوية، التي أحكمت سيطرتها على البلاد من نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي، إلى أن استطاعت زعامة الحزب الشيوعي الصيني التحرر من قيود الفكر المتحجر ثم المزاوجة الحاذقة بين الفكر الاشتراكي والتطبيقات الرأسمالية للاقتصاد الصيني، وهو ما تأكد نجاحه بصورة أدهشت المراقبين، ومع أن اليابان والصين شهدتا حضارة موغلة بالقِدم، إلا نجاحهما الحاسم في بناء نهضتهما الجديدة هو حصيلة لنمط من التفكير الجديد لم يكن مسموحا به لزمن طويل، ولم يحصل إلا بعد نزع سلطة الكهنة البوذيين الأبوية عن الدولة، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة العمل الشاق على إقامة الدولة المدنية، بعد فصل سلطة كهنة المعبد عن إدارة الدولة المدنية.
إن عدم السماح لرجال الدين بالتدخل في صياغة القرارات السياسية والاقتصادية، منح الحكومات المتعاقبة على الحكم في البلدين بعد عصر النهضة الذي شهدته أوربا ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي، قدرةً وديناميكيةً على قطع أشواط سريعة في عدة عقود، استطاعتا خلالها توطين التكنولوجيا في أراضيهما في وقت قياسي.
وإذا انتقلنا إلى الهند فإننا سنلاحظ بطئاً شديدا في اللحاق بركب اليابان والصين، مع أن الدول الثلاث عاشت تجارب حضارية قديمة عميقة، إلا أن التدرج الذي عاشته البلدان الثلاثة في تحقيق التطور التكنولوجي، يبدو لافتا للنظر، ويمكن أن يؤشر ذلك إلى قدرة كل بلد من البلدان الثلاثة على عزل رجال الدين أو المنظرين العقائديين عن التدخل في تفاصيل الدولة وخياراتها الاقتصادية، لكن من يراقب التجربة الهندية سيلاحظ تفشي طقوس دينية لأتباع الديانة الهندوسية ذات الأغلبية السكانية والممسكة بحكم البلاد تثير الدهشة في معظم دول العالم، لخضوع السلطات لرأي الأغلبية السكانية التي تقود المؤسسة الدينية وترسم قراراتها، على وفق هوى الكتلة البشرية الجاهلة، وبالتالي تحدُ كثيرا من قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات راديكالية تتعلق باللحاق بنظيرتيها اليابان والصين.
باختصار شديد نستطيع القول إن هناك تخادماً ثابتا ظل يطبع تاريخ آسيا، بين كهنة المعابد البوذية “بنماذجها المحلية المتعددة” والهندوسية والسيخية، والأباطرة والملوك والسلاطين فيها، بما يحقق منفعة متبادلة بين الطرفين، ففي الوقت الذي يمنح أولئك الكهنة البركة للأباطرة والملوك والسلاطين، ويطلقون لهم الحق في الحكم استناداً إلى تفويض من الآلهة أو الإله المعبود، كان الأباطرة والملوك والسلاطين يوفرون المال والحماية للكهنة ورجال الدين وكل ما يحتاجونه من أسباب القوة على مستوى الشارع، وبالتالي يمكن القول إن الشعب والبسطاء منه خاصة، هم ضحايا التخادم بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية.
من غير الممكن لأي مجتمع أن ينتقل من حالة التخلف إلى الحالة المدنية المتطورة، ما لم يعش استقراراً سياسيا وحرية رأي وبحث في كل الميادين، مما يمهد الأرضية ويعد البيئة المناسبة لنمو الأفكار المبدعة لأي مجتمع يطمح للتغيير والبناء، والاستقرار هو اللازمة التي لا بد منها لأي تقدم منشود في مضامير الاقتصاد والعلوم والثقافة والفكر، وهذا ما عرفناه من خلال متابعتنا للعوامل التاريخية التي أوصلت أوربا إلى الاكتشافات والاختراعات التي نعرفها اليوم، بعد أن عانت القارة كلها من اضطهاد للمفكرين والمكتشفين والمخترعين لحقب طويلة، ثم انتقلت إلى بيئات أخرى كالولايات المتحدة، التي قدمت إضافات استثنائية لما حصل في أوربا، وذلك بسبب أن المجتمع الأمريكي هو مجتمع أخلاط سكانية ساهمت فيها الهجرات الأولى وما أعقبها من دول أوربية كثيرة، عاشت نزاعات دموية فيما بينها من أجل البقاء، فكان على كل فريق أن يعزز من عوامل قوته ليواجه الآخر، وعندما انتهت تلك النزاعات بكل أوجهها، التقت كل المهارات الأوربية المهاجرة في أمريكا مع بعضها، لتصنع شيئا مميزا عن أية تجربة أوربية خاصة.
ولأن الدولة العربية بكل مراحلها البعيدة والقريبة، عانت كثيرا من ظروف عدم الاستقرار السياسي، نتيجة ظهور الكثير من الانقسامات التي بدأتها فرق غالية في مختلف أصقاع الدولة العربية الإسلامية المترامية الأطراف، وتحولت مع الزمن إلى حركات ذات برامج فكرية لها طموحات سياسية، أدت فيما بعد إلى تشكيل أذرع عسكرية لها، خاضت حروبا طاحنة ضد سلطة الدولة، عصفت بوحدة الأمة واستقرار دولتها، وفرضت نظام حكم يستند على مبدأ حماية الدولة أولا وأخيرا.
على العموم أُواجه بصفة مستمرة بسؤال ملّح، عن أسباب تفشي حالة الفقر المدقع التي يعاني منها المسلمون في كل دولهم من دون استثناء، وتخلّف الدول الإسلامية التي تنتشر على طول القارة الآسيوية وعرضها عن بقية الدول المتطورة التي استقلت بعدها بعدة عقود، وقد لا تحتوي أراضيها على ثروات طبيعية متنوعة كالتي تمتلكها الدول الإسلامية، ولماذا تفشل معظم الحكومات في معالجة الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والأعاصير التي تتعرض لها، بكفاءة تقترب من كفاءة ما يحصل لدول أوربية أو أمريكية، وهي بأضعاف قوة ما يحصل في الدول الإسلامية عدة مرات؟ هل يكمن السبب في الإسلام نفسه أم بالمسلمين؟ أم أن السبب الحقيقي يتلخص بوجود “مؤامرة” لإبقاء العالم الإسلامي في حالة سبات أبدي، لأنه قد يشكل خطرا على القوى الدولية الكبرى المسيطرة على السياسة الدولية، وثروات الشعوب لحقب طويلة وتخشى على مصالحها من فقدان فجائي نتيجة يقظة إسلامية شاملة؟
وأحيانا أسأل نفسي، لماذا لم يحصل عرب أو مسلمون على عدد من الجوائز الدولية المعروفة كجائزة نوبل على سبيل المثال والتي تمنح لعلماء توصلوا إلى نتائج لم يسبقهم أحد فيها، يتناسب مع عددهم الكبير على مستوى العالم، هذا إذا جردنا هذه الجائزة المعروفة، من الغرض السياسي في طرق منحها.
يمكن البحث عن أجوبة سهلة للخروج من مأزق السؤال، لأن تقديم الجواب الحقيقي عنه، قد يوقع أي طرف ساهم بصياغته في إشكاليات هو في غنى عنها لا سيما ممن بيده مقاليد الحل والعقد أي سلطة المال والقوة.
لا يمكن التعلل بأن الخارج وحده هو المسؤول عما يعانيه العالم الإسلامي، على خطورة الدور الخارجي المغرض في وضع الكوابح المانعة من الرقي، لأسباب مركبة، منها ما يتصل بالأمن القومي للتحالفات الدولية القائمة، ومنها ما يرتبط بالمصالح التجارية المتضاربة بين الكتل الاقتصادية الكبيرة، وحتى داخل كل كتلة بين دولها، فبعض الدول تسعى لإبقاء دول أخرى خارج الزمن، وتبقيها بحاجة مستمرة إلى استيراد غذائها، وما تحتاج إليه من معدات وأجهزة ذات خصوصية في التصنيع، لا مندوحة من استخدامها في البناء والنقل واستمرار الحياة، وكذلك لإبقاء مناجم المواد الخام في الدول المتخلفة والتي لا تمتلك الأموال اللازمة لاستثمارها، فتأتي الدول الصناعية لتحافظ على تدفقها إليها من مناطق انتاجها، كي تدير ماكنة اقتصادات الدول المتطورة، لا سيما الدول التي كانت تحتلها قبل قرار تصفية الاستعمار الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960، وبالتالي فإن قليلاً من دول العالم هي التي تكون على استعداد للتخلي عن أسواقها طواعية، ما لم ترغم على ذلك إما بفعل القوة المسلحة، أو نتيجة تدخل قوى تنافسها في عاملي الجودة والأسعار، لأي طرف آخر بما في ذلك التطور الحاصل مستوى الإنتاج في سوق البلد، مما يدفعه لحماية انتاجه الوطني عبر فرض الضرائب وتخليه عن استيراد بعض السلع من الخارج.
هناك من يحصر سبب تخلف الدول الإسلامية بما فيها الدول العربية، بالقيود التي يفرضها الإسلام على أي منتج جديد، عن طريق إخضاعه للبحث والدرس وعما إذا كانت تشوبه مسحة من الحرام، وبالتالي يمكن أن تضع مثل هذه الخطوات المزيد من الفرامل المعيقة لحركة التطور.
وهناك من يُرجع كل المشكلات التي يعيشها المسلمون إلى اليوم الذي انتقل فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، عند انشقاق المسلمين إلى أكثر من فريق، فالأنصار قالوا للمهاجرين “منا أمير ومنكم أمير” في حين قال المهاجرون إن هذا الأمر “الخلافة” محصور في المهاجرين وفي قريش بالذات، وهؤلاء انقسموا إلى فريقين، منهم أيد السقيفة التي بايعت أبا بكر الصديق ومنهم الذين قالوا إن الخلافة لعلي بن أبي طالب، وكل هذا يؤكد أن الرسول الكريم لم يوص بالخلافة لأحد من بعده، لا في خطبة الوداع ولا في مناسبة قديمة أو لاحقة.
وبعد تولية الخلافة لأبي بكر الصديق، ارتدّت قبائل عربية كانت حديثة عهد بالإسلام، فحاربه بكل قوة، حتى دانت له الجزيرة العربية بكاملها، والعراق وبلاد الشام، وعندما تولى الخلافة من بعده عمر بن الخطاب، استقرت أمور الدولة الجديدة وبدأت تبحث لنفسها عن فرص لتنظيم دواوين الدولة على أسس صحيحة، ولكن أول فوضى اندلعت في تاريخ الدولة الإسلامية اندلعت مع اغتيال الخليفة الثاني، الذي أوصى بلجنة من صحابة رسول الله صلى الله وسلم، لتختار من بين صفوفها الخليفة الجديد، ولأن عمر بن الخطاب كان يعرف ما يدور في خلد لجنة الشورى فقد حدد لهم زمنا للخروج بالاختيار، وأمر أبا أيوب الأنصاري بمراقبة ذلك وضرب عنق من يخرج على الإجماع، فتم اختيار عثمان بن عفان خليفة ثالثا، الذي انتهت خلافته بالفتنة الكبرى التي ما تزال فصولها تضرب نظام الحكم الإسلامي بالصميم، وبعد اغتيال بن عفان بعد حصار “الثوار القادمين من مصر ومن العراق” اختار المسلمون الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، الذي واجه عدة أزمات عاصفة، أهمها الاقتصاص من قتلة عثمان بن عفان، ولما تأخر في ذلك لحجج رآها منطقية، خرج عليه الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، والسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فوقعت معركة الجمل، وانتهت المعركة بانتصار جيش علي، وقتل من الطرفين خلق كثير، ثم شق معاوية بن أبي سفيان عصا الطاعة وأعلن إقامة الدولة الأموية، فوقعت معركة صفين، التي انتهت بخروج قوم من جيش علي هم الخوارج الذين كفّروه وكفّروا الكثير من المسلمين، واستمرت حركتهم زمنا طويلا حتى استطاع الحجاج بن يوسف الثقفي هزيمتهم، ولكنهم ظلوا كالنار تحت الرماد، وما زال فريق منهم إلى يومنا الراهن وهم أتباع المذهب الأباضي، الذين يعيشون في سلطنة عُمان وهم الذين تنحدر منهم العائلة السلطانية.
فالتاريخ الإسلامي لم يشهد فترة استقرار طويلة لأي حكومة حكمت دولته، فهل نتوقع أن تنتج فترات الاضطراب السياسي أفكارا للتخطيط العلمي لبناء دولة مدنية؟ تفضي إلى انتاج المخترعات التي أنتجت في أوربا وما زالت الأساس الراسخ لكل الصناعات القائمة حاليا، أو التفرغ للبحوث والدراسات المماثلة لتلك التي أدت نهضة أوربا التي بدأت منذ عصر النهضة الذي بدأ مع انهيار الدولة الإسلامية.
————–
ملاحظة:
لم أتعرض للحديث عن التاريخ العربي الإسلامي، إلا بقدر الإشارة فيه إلى حالة عدم الاستقرار التي تقف حائلا دون تحقيق خطوات تقدم ورقي في مجالات العلوم والصناعة والزراعة، فأنا أعرف أن تفسير أحداث التاريخ العربي الإسلامي تشوبه خلافات ووجهات نظر تصل حد التصادم.
من التجني أن نوجه أصابع الاتهام إلى الإسلام، فيما تعيشه دول تدين بهذا الدين السمح، فالإشكال ليس في الإسلام، وإنما بالمسلمين أنفسهم، وفي تفسيرهم للنص المقدس أو بما يُصطلح “بالفتوى الدينية”، وتضارب الاجتهادات في معرض قضية واحدة بين البلدان المختلفة، وداخل البلد الواحد بل داخل المؤسسة الدينية الواحدة.
ولما لم أكن متخصصا في أمور الفقه، ولا أزعم أنني ضليع به، ولكنني كمسلم أحرص على ديني وما يفرضه عليّ من واجبات وأوامر ونواهي، رأيت أنني يمكن أن أطرح وجهة نظر، قد يؤدي بي الحديث في هذه الموضوعات إلى ارتكاب أخطاء غير مقصودة بكل تأكيد، ومع ذلك فليسمح لي أصحاب الاختصاص أن أُدلي بوجهة نظري، فإن كانت صائبة فهذا ما أرجوه، وإن لم تكن كذلك، فأرجو التصويب من ذوي الاختصاص.
على ما أرى أن الفتوى الدينية تصدر عن هيئات متخصصة لها باع طويل في معرفة العلوم الدينية، ولها وجهات نظر تُعدها الأقربَ لمقاصد الشرع المقدس، وأسمح لنفسي أن أعددها على النحو التالي.
1 – الفتوى الصادرة عن إيمان حقيقي بشرعة الله تعالى لعباده، وشعور من المفتي بأنه يقرب المعنى المقصود من النص الديني الوارد في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة للمكلفين، كي لا يتجاوزوا الحدود الشرعية، ويدخلوا في المحذور من حيث لم يدروا.
2 – الفتوى التي تسعى إلى تكريس الواقع الموجود بصرف النظر عن تطابقه مع النص المقدس أو لا، وهذه الفتوى تصدر عن بعض رجال الدين الذي يرون في كل تجديد تهديداً لمصالحهم أو مصالح نظام الحكم الذي يعملون له، وبالتالي فإن مثل هذه الفتاوى، ستتحول إلى سيف مسلط على رقاب دعاة التجديد، سواء في الفقه أو في بنية المجتمع على المستوى الاقتصادي والعلمي، لأن هؤلاء يعتبرون الدعاة إلى التغيير، هم من المتغربين والمشبعين بالأفكار الوافدة، وفاقدي البوصلة الوطنية، وأكثر من يلجأ إلى هذه الفتوى هم الذين يسعون لتسيس الدين واتخاذه جسرا للمحافظة على المكاسب التي يحظى بها “وعاظ السلاطين”.
3 – الفتوى التي تسعى إلى تكفير الناس بكل الموروث الديني بحجة التنوير والتحديث، وتعتبر أن التمسك به عائق كبير يقطع الطريق على كل من يحاول إدخال أي لمسة حديثة في المجتمع، سواء كانت نزيهة أم لا، وهذه الفتوى تنظر للدين نظرة عدوانية وتعتبره السبب الوحيد للتخلف في مجال العلوم والتكنولوجيا، وتلقي بتبعات ذلك على عاتق رجال الدين والمتدينين.
4 – الفتوى السياسية التي تأتي من سلطة ولي الأمر، ويفرضها بقوة السلطة على علماء الدين والفقهاء، لأنها تتناغم مع مزاجه الخاص والتربية التي نشأ فيها، فيؤدي ذلك إلى تحولٍ غير متدرج وغير مدروس على قيم مجتمع ما، وقد تؤدي مثل هذه الفتاوى إلى زج المعارضين من الفقهاء والعلماء في السجون أو التغييب بهدف قطع ألسنتهم عن الاعتراض على ما يرونه خرج على أهداب الدين.
وفي سياق هذا الموضوع سنورد مثالا لكل نوع من الفتاوى، وهذا التعدد بالفتاوى المتضاربة، التي يعتقد كل واحد منهم أنه هو الذي يمثل المنهاج القويم، وغيره على باطل، هو الذي يترك المرء في حيرة من أمره، ذلك أن الجهل بكثير من حيثيات القضايا المطروحة، قد يؤدي إلى الإبطاء في مسيرة المسلمين نحو مستقبل مزدهر، وهناك عدة عوامل أسهمت باستمرار حالة التخلف في الوطن العربي والعالم الإسلامي، على الرغم من أن كثيرا من دوله، نالت استقلالها قبل ما يزيد على قرن، كان كافيا لإحداث نقلة نوعية في الركائز الاقتصادية الأساسية، ثم إن كثيرا منها كانت على احتكاك مباشر مع أوربا سبقت في ذلك عشرات الدول في آسيا وأفريقيا، التي تقدمت على بعض الأقطار العربية بشكل خاص، فهل ينحصر الأمر بالفتوى الدينية، التي يقول البعض أنها هي سبب التأخر عن مواكبة الدول المتقدمة، أم هناك عوامل أخرى؟ هنا يبرز رد منطقي، وهو أن العرب بعد نزول الرسالة الإسلامية وقيام الدولة الإسلامية في المدينة والشام وبغداد والأندلس، فأقاموا صروح نهضة لامعة أيام الدولتين الأموية في الشام ثم في الأندلس، والدولة العباسية، شملت ميادين الطب والهندسة والرياضيات والكيمياء والفلك، والزراعة والتعدين وغيرها، وصلت حد تفكير البعض بالطيران كما حصل لعباس بن فرناس العالِم المتعدد المواهب، الذي حاول الطيران وأخفق في ذلك ولم يقل له فقيه واحد إن عمله حرام، لكن أحدا لم يحاول أن يقتفي أثره ويفكر في تلافي الأخطاء التي وقع فيها، فلماذا لم توقف الفتوى الدينية كل ذلك التطور؟
فهل هناك من يغفل ما لأبي عبد الله محمد بن موسَى الخَوارِزمي، عالم الرياضيات والفلك والجغرافيا، والذي يعتبر من أبرز علماء الرياضيات المسلمين، من فضلٍ على العالَم في تطوير علم الرياضيات وتقديمه لأوربا في عصر نهضتها، واختراع الصفر إلى الاعداد التسعة، ليكون ذلك بمثابة ثورة في عالم الرياضيات، وتوظيفه خير توظيف مع مختلف العلوم للتحرر من عهود الجهل والظلام، ومن أهم ما ترك لنا من مؤلفات، كتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة الذي يعد أهم كتبه، أو جابر بن حيّان بن عبد الله الكوفي ودوره في تطوير علم الكيمياء والفلك والهندسة وعلم المعادن، صحيح أن كثيرا من المشتغلين في الكيمياء ركزوا في بحوثهم على كيفية تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، إلا أن تلك الجهود أثمرت نتائج كبيرة في هذا التخصص، أما في البصريات فبرز أبو عَلْي الحَسن بن الهَيثم البصري، وهو عالم موسوعي عربي مسلم قدم إسهامات كبيرة في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب العيون والفلسفة العلمية والإدراك البصري والعلوم بصفة عامة، بتجاربه التي أجراها مستخدمًا المنهج العلمي، وله العديد من المؤلفات والمكتشفات العلمية التي أكدها العلم الحديث، أما ابن البيطار ضياء اَلدِينِ أَبُو محَمَد عَبد اَللَّهِ بْن أَحمَد الملقي فهو عالِم نبَاتي، وصَيدلي، يعد مِن بين أعظم علماء العصرِ الذهبِيِ للإسلام، وعالِم عصرِهِ في عُلوم النبات والعَقاقِير، والصيدلي الأول في وقته.
ويجب ألا ينسى دارسو التاريخ العربي، دور بيت الحكمة في بغداد والذي أسسه الخليفة العباسي المأمون، أو الجامعات التي تم تأسيسها في العراق وفي الأندلس، أو في المغرب وتونس ومصر، وما تركه لنا ذلك الإرث من صفحات الحضارة في أجلى صورها المشرقة، ولكن هنا يمكن أن يطرأ سؤال كبير، إذا كان لدينا كل هذا الكم الكبير من العباقرة العرب والمسلمين في مختلف الاختصاصات العلمية، فلماذا لم تتمكن جهة أو جهات مختلفة من جمعهم في مؤسسة واحدة، صحيح أنهم لم يجتمعوا في مكان واحد أو في وقت واحد، ولكن ألا يوجد مع كل واحد منهم علماء آخرون ربما يساوونهم في الخبرة ولم ينالوا نصيبهم من الشهرة، أو أقل منهم في المعرفة والدراية، وامتلكوا الرغبة في الحصول على المزيد منها، ولو تلقفتهم جهات تمتلك المال اللازم والحماية الاجتماعية لهم في ظروف الشيخوخة والعجز، أما كان بإمكانها أن تستقطب الآلاف من الكفاءات في مختلف الاختصاصات العلمية؟ على هذا استطيع القول بأن الدولة في ذلك الوقت لم تكن تمتلك تصورا لمنظومة كاملة من أسباب البحث العلمي وإقامة مراكز البحث والمختبرات اللازمة، بل كان كل عالم من علماء المسلمين في ذلك الوقت يخوض معركته منفردا، وإذا بادر خليفة من الخلفاء أو سلطان من السلاطين أو وزير من الوزراء على تأسيس هيئة أو مدرسة أو جامعة، لترتبط باسمه، فقد تفقد الاهتمام من لدن من يخلفه في الحكم، كما حصل مع المدرسة المستنصرية في بغداد.
ومن أجل أن تُستكمل خطة التنسيق الجماعي بين العلماء وتكامل الأدوار بينهم، لإيجاد منظومة بناء علمي رصين يعتمد على المهارات الفردية، يجب أن تتواجد هيئة حكومية أو من جهات أخرى تمتلك وجودا معترفا به، ترفد المؤسسة العلمية بالكوادر والانفاق عليها، وهناك رأي يطرح ولا دليل ماديا على صحته، وهو أن نرجسية أولئك العلماء والمبدعين، كانت تطغى على كل محاولة لجمعهم مع الآخرين وإيجاد صيغة عمل منسق في مؤسسة واحدة فتفشلها، وكانت تحول دون نجاحها، لقد شكك الغربيون بالعقل العربي وقالوا إنه عقل تحليلي لا تركيبي، فهل لعبت هذه المقولة دورها في تأخير الصورة النهائية لصعود العرب إلى مراتب أعلى في المسيرة الإنسانية؟
لأن هذا الموضوع يتعلق بدور الفتوى الدينية في تأخر المجتمع وتخلّفه، كما يقول “التنويريون” والعلمانيون، التي كنت قد وضعتها بتسلسل رقم 2 من القسم الثالث من هذه المقالة، والتي قلت فيها:
(الفتوى التي تسعى إلى تكريس الواقع الموجود بصرف النظر عن تطابقه مع النص المقدس أو لا، وهي الفتوى التي تصدر عن بعض رجال الدين، الذي يرون في كل تجديد، تهديداً لمصالحهم أو مصالح نظام الحكم الذي يعملون له، وبالتالي فإن مثل هذه الفتاوى، ستتحول إلى سيف مسلط على رقاب دعاة التجديد، سواء في الفقه أو رجال الفكر وفي بنية المجتمع على المستوى الاقتصادي والعلمي، لأن هؤلاء يعتبرون الدعاة إلى التغيير، هم من المتغربين والمشبعين بالأفكار الوافدة، وفاقدي البوصلة الدينية، وأكثر من يلجأ إلى هذه الفتوى هم الذين يسعون إلى تسييس الدين واتخاذه جسرا للمحافظة على المكاسب التي يحظى بها “وعاظ السلاطين”).
لذلك فسوف أركز عليها، وأترك النقاط الثلاث الأخرى توخيا لحصر الموضوع في الفكرة الأساسية.
هناك ثلاثة كيانات سياسية لثلاثِ دولٍ إسلامية نشأت بحدودها السياسية القائمة اليوم، وشهدت حضارات في الشرق القديم قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بعدة قرون، ولكنها لم تتواصل فيما بينها إلا بالحروب إلا ما ندر، ولكنها ما زالت تعيش حالة تخلف علمي واقتصادي مقارنة بأوربا وأمريكا ودول “شرقي آسيا” التي شهدت هي أيضا حضارات قديمة، ولكنها لم تجعل من الماضي نصباً مقدساً وحاجزاً يمنع التخطيط العلمي للحاضر، والتفكير المعمق للوصول إلى مستقبل يعيد الكثير من ألق الماضي إليها، لذلك أرى أن أتناولها بالبحث مع مرور سريع على دول أخرى بدأت تنتفع من مواردها المالية الهائلة المتأتية من نشاط اقتصادي ريعي لا فضل لها بتراكمه، ووظفته في مشاريع عمرانية من دون ركائز أساسية تصلح كقاعدة اقتصادية متنوعة الموارد، تنقل التكنولوجيا لغرض توطينها، وتقضي على البطالة والبطالة المقنعة، أرادت أن تقتفي خطوات الدول التي قطعت أشواطا بعيدة في مجالات التطور التقني المتعدد المحاور، ولكن المراقب سرعان ما يلاحظ أنها لم تستطع أن تقيم بتلك الموارد ركائز تكنولوجية تضعها في مصاف الدول المتمدنة، أما لقلة عدد السكان وبالتالي غلبة العنصر الأجنبي على العنصر الوطني، أو أنها لم تحسم خياراتها على النهج الذي عليها أن تمضي فيه، هل هو الصناعات التحويلية والصناعات الخفيفة، أم تذهب إلى الصناعات الثقيلة التي تختزل المسافة الزمنية التي تفصلها عن اليابان وكوريا أو عن أوربا والولايات المتحدة؟
هنا علينا أن نتوقف عند موقف الدول الكبرى التي تتولى شركاتها المتعددة الجنسية استخراج النفط وهو الثروة التي تعد القاسم المشترك لثروات دول المنطقة، وتتحكم في خطط استثمار مداخيله، فبعد ارتفاع سعر برميل النفط خارج كل السياقات المعهودة، ووصلت مداخيلها إلى ارقام فلكية، نتيجة لحروب إقليمية ودولية عاشتها منطقة الشرق الأوسط، أو تعرض خطوط الملاحة البحرية للخطر جراء النزاعات المسلحة.
يذهب الخبراء الاقتصاديون المحليون إلى أن الشركات المملوكة للكارتل النفطي الغربي، تضع قيودا صارمة على أية استثمارات في مجال إقامة قاعدة تكنولوجية في البلدان العربية والإسلامية، لأنها تريدها أسواق تصريف لمنتجاتها الصناعية التي تواجه منافسة شديدة من اليابان وكوريا الجنوبية والصين، فهل من المعقول أن تسمح لدول أخرى بالدخول إلى سوق المنافسة التجارية المزدحمة بالمنتجين الكبار، والذين باتوا يخشون على تجارتهم من الكساد في منطقة تعتبر من أكثر المناطق ثراء في العالم، وربما لا يعرف كثير من أبنائها قيمة هذه الثروة، ويعمل الكارتل النفطي على إعادة تلك الثروات بأية وسيلة متاحة إلى من يعرف قيمتها، ولهذا لاحظنا أن الدول التي حاولت الخروج من شرنقة القوالب المقيدة لها، تم شن الحروب عليها لكسر إرادتها، بما في ذلك شن حروب الإغراق التجاري كمرحلة أولى، ثم في إشغالها في نزاعات داخلية غير قابلة للحل، وأخيرا وفي مرحلة لاحقة شن الحروب المسلحة عليها كما حصل للعراق في الحرب العراقية الإيرانية، عندما حركوا نظامها الجديد لخلق أكبر فتنة في الشرق الأوسط ما زالت تداعياتها تضرب استقرار المنطقة بقوة، أو في قصف المفاعل النووي العراقي عام 1981، أو في شن حربين كبريين عليه عام 1991، وعام 2003 من قبل التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة.
إن عدم حسم الخيارات الداخلية، أدى إلى وقوع فوضى في الرؤية السليمة لتلك الدول على جدول الأولويات، ولذلك جاء تحركها بشكل غير مدروس، أدى إلى وقوع تصادم مع الموروث الديني المتزمت الذي كانت تعيشه وتنابز الآخرين، لتثبت أنها أكثر الدول اقترابا من التفسير السليم للفكر الإسلامي، هذه الدول الشرق أوسطية، يمكن اتخاذها كعينةٍ للدرس، وهي مصر والعراق وإيران، وهي التي عاشت حضارات قديمة متألقة وإن كانت كل واحدة منها قد برزت في بعض الجوانب دون أخرى، غير أنها حلقات متكاملة، وإن كانت غير متصلة مع بعضها، إلا أنها تبقى جزءً مهماً من التراث الإنساني، هذا ليس معناه أن الدول الثلاث وحدها التي عاشت حضارة سابقة للميلاد، فهناك في بلاد الشام واليمن وجزيرة العرب، حضارات في غاية التطور والازدهار، ولكننا أخذنا النماذج الثلاث في البحث، من أجل التعرف على أسباب تأخرها عن ركب التقدم الذي عاشته أوربا واليابان على سبيل المثال لا الحصر.
لقد عاشت الدول الثلاث ماضياً تنظر إليه بإكبار واعتزاز شديدين، كما أن هذا الإرث يحظى بأعجاب العالم وخاصة علماء الآثار والمهتمين بها، وترك حضارات غنية للدول الثلاث جعل من دولها بحدودها الحالية تتنافس فيما بينها، لا سيما بين مصر والعراق حول أي من الحضارتين أقدم من الأخرى، أو أكثر تطوراً وشمولاً لأوجهِ الحياة من الأخرى، وإذا ركنا هذه التساؤلات جانبا، فيجب علينا أن نركز على عدة ملاحظات كي نُصدر حكماً موضوعياً عن أسباب تخلف هذه الدول عن ركب الدول الأوربية، لا سيما في مجالات العلوم والتطور الصناعي والزراعي وإقامة قاعدة تكنولوجية تضاهي ما لدى دول أقل تقدما من اليابان أو كوريا الجنوبية.
ثم إن علينا أن ندرس تأثير الكثير من الأحداث المفصلية التي تضافرت على الأمة في ماضيها، وأوشكت أن تقضي على وحدتها ووحدة نظامها السياسي، فعلى سبيل المثال، بعد تسعة عقود من عمر الدولة الأموية في الشام، التي سجلت أعظم الفتوحات في تاريخ الإسلام ونشرته في السهول والوديان وفوق الجبال، واتساع رقعتها من أقاصي الشرق إلى شواطئ المحيط الأطلسي وجنوبي أوربا، دخلت أقوام كثيرة في الإسلام من غير العرب، وخاصة بلاد فارس وما وراء النهر، عند ذاك بدأت تنمو نبتة طارئة على العقيدة الإسلامية، وفي غاية الخطورة على الدولة العربية الإسلامية، وهي الفكر الشعوبي الذي نما في مجتمع الموالي، والذي يجاهر بكراهية العرب بحجة استئثارهم بالمواقع القيادية في الدولة والسيطرة على أموالها، وبعد أحداث مفصلية سقطت الدولة الأموية ونهضت على أشلائها الدولة العباسية، ولم تستقم لها الأمور زمنا طويلا، إذ نشطت حركات من مختلف التوجهات السياسية والفكرية التي لم يطب لها أن ترى الدولة الإسلامية تعيش حالة استقرار، وتتفرغ للبناء وتطوير الصناعة والزراعة، فكانت حركة القرامطة التي انطلقت من الكوفة في العراق، في العقد الأول من القرن العاشر الميلادي، أي نحو عام 908م، أخطر تهديد واجهته الدولة العباسية، إذ انتشرت في أكثر من مكان حتى تجرأت على احتلال بيت الله الحرام وسرقت الحجر الأسود من موضعه، بعد أن ارتكبت من الفظائع الشيء الكثير، فقتلت الآلاف من حجاج بيت الله، كما حكمت البحرين أيضا، ومع نشوء هذه الحركة الخارجة عن الإسلام باسم الدعوة لآل البيت، وكانت تقول إنها تتبع مذهب إسماعيل بن جعفر الصادق، الذي ينظر إليه أتباعه على أنه الإمام السابع وهو المهدي المنتظر، واستشرت عوامل تفككت الدولة العباسية حتى انهارت في نهاية المطاف باحتلال بغداد سنة 656هـ عندما استباحها هولاكو.
وقبل ذلك تأسست الدولة الفاطمية “العبيدية” عام 912م واتخذت من المذهب الإسماعيلي مذهبا رسميا لها، وحكمت شمالي أفريقيا حتى وصلت إلى مصر، ولعل آخر وأخطر ما عانى منه العالم الإسلامي من انشطارات، قيام الدولة الصفوية عام 1500م، وهي الأشد خطرا على وحدة المسلمين، لأنها أحدثت شرخا ما زال يتسبب بكل عوامل التطاحن داخل العالم الإسلامي.
أما الحروب الصليبية فكانت وجهاً آخر لعوامل إشغال الدولة العربية بالحروب الخارجية، فكانت بدايتها الفعلية في تشرين الثاني 1095م، وذلك إثر خطبةِ ألقاها البابا أوربان الثاني، دعا فيها إلى استعادة بيت المقدس من المسلمين، واستمرت زمنا طويلا، وكانت ذات تأثير كبير على هز استقرار الدولة العربية وفرص تطورها، فهل يمكن أن تلتفت أمة تعرضت إلى كل هذا القدر من الفوضى والاضطراب، إلى تطوير نفسها وبناء مراكز البحث العلمي؟ والذي يفضي عادة إلى التطور متعدد المحاور، فلا فرصة لأي مجتمع من المجتمعات في العالم بالتطور، ما لم يعش حالة استقرار أمني وسياسي مجتمعي طويلة، تساعد على الابتكار والابداع، والتخلص من القيود الناجمة عن وضع قوالب جامدة للحلال والحرام، حتى وصلت إلى أمور صغيرة لا تستحق إشغال عالِم أو رجل دين بها، ولكنها دخلت في سجالات الأخذ والرد، والانصراف إلى الخلافات بين الفقهاء أنفسهم، من دون الخروج منها بنتيجة قاطعة، وعلى الرغم من أن القرآن الكريم نزل بأولِ أمرٍ على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بكلمة اقرأ ثم حث على البحث من خلال الآية الكريمة التي تقول “اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم”، فهل استطاعت الدول الثلاث التي تتخذ من الإسلام ديا رسميا لها، وتزيد إيران على ذلك بأنها تسمي نفسها الجمهورية الإسلامية، أن تستلهم من الإسلام الحافز لاكتساب المعرفة بكل صورها؟ أم أنها لم تخرج من الشرنقة التي وضعت نفسها أو وُضعت فيها وفضلت الجمود الفكري على الإبداع؟.
______________