صحيفة عبرية: محاكمة نتنياهو.. حدث قضائي أم موعظة لطفل في سن البلوغ؟
صحيفة عبرية: محاكمة نتنياهو.. حدث قضائي أم موعظة لطفل في سن البلوغ؟
في النهاية جاء. لا بيد ملاك ولا شريف، بل بنفسه وجسده: لعلها البشرى الوحيدة من اليوم الأول لشهادة نتنياهو. رغم كل الطلبات والمعاذير وكل البطاقات التي كانت ولا بد ستكون، كان هناك؛ في قاعة بالطابق ناقص 2، الحجرة الزجاجية من خلفه، منصة الخطابة أمامه. خطوة صغيرة لمحاكمة “الآلاف”، خطوة كبيرة للقانون والنظام في دولة إسرائيل.
لم تكن شهادة نتنياهو في المحاكمة أمس حدثاً قضائياً؛ ولا حدثاً سياسياً. أحياناً، بدت كموعظة بلوغ لطفل نشط: فليعلم العالم مدى عملي؛ فليعلم كيف أنقذ الوطن كل يوم؛ أحياناً بدت كقصيدة الضحية: انظروا ما فعله بي المحققون والنواب العامون ووسائل الإعلام، انظروا ما يفعلونه بي. ينبغي أن يقال في صالحه: كل شيء أصيل؛ فهو يؤمن بأنه ينقذ الدولة بمجرد ولايته وهو ضحية خونة من الداخل، عملاء للعدو. عندما يدور الحديث عن نتنياهو فهو رجل مؤمن.
صعب تصديق أن يشتري القضاة هذه الحجة: فهي ليست معدة لهم، بل معدة للمتظاهرين في الخارج الذين غطى مكبر صوتهم القوي على هزال الصفوف، وهي معدة للرجل نفسه، لعقيلته، لابنه. فهم ليسوا أصناف القاعدة فحسب، بل القاعدة.
قاعة المحكمة المركزية في تل أبيب كانت مليئة عن بكرة أبيها بالنواب العامين وبالمساعدين، وبرجال الأمن، والصحافيين والوزراء والنواب من الائتلاف. وحتى لو قرر الحوثيون إطلاق مُسيرة إلى القاعدة، ما كانوا سينجحون في جعلها تتسلل إلى داخل القاعة –كان الوضع مكتظاً إلى هذه الدرجة. جاء السياسيون لإظهار وجودهم ولنثر قسم من ولائهم بين مواقع الأخبار ونشرات التلفزيون الصباحية. فليعلم أعضاء المركز بأنهم كانوا هناك، معه وخلفه. ولتعلم أيضاً سارة. دخل بن غفير إلى القاعة أولاً، قبل الحدث بكثير، محوطاً بحاشية، قال جملة استفزازية للكاميرات وذهب. فرحاً ومازحاً. وبالتدريج تبخر الجميع إلى أشغالهم.
جلس أفنر نتنياهو في زاوية صف المقاعد الخلفية، الحلقة الصامتة في عائلة مفوهة جداً. كل من كان في القاعة رأى حاجة لالتقاط صور له. وحتى عندما صمتت الكاميرات ونهض المتهم للحديث، واصلت عيناه التركيز في نقطة واحدة على ظهر أبيه. لم تتحرك عضلة واحدة في وجهه، لا ابتسامة، لا هنة، لا غضب. في لحظات حرجة وضاغطة، كان مخرجنا جميعاً هو أن نطل على شاشة الهاتف النقال. أما الابن فلم يسمح لنفسه حتى بهذا.
حزنت له. كنت في وضعه سأشعر كحيوان في سيرك.
الشرطة، كما اتهم عميت حداد، محامي نتنياهو، لم تحقق جناية، بل حققت إنساناً. بحثت عن رأس نتنياهو، سواء بصلة أم بدون صلة، بملفات التحقيق. اعتقد أن ادعاءه، الذي كرره نتنياهو في شهادته، جدير بالبحث. فكروا في ذلك مبدئياً، على نحو منفصل عن الرأي الذي بلوره كل إنسان في إسرائيل عن نتنياهو، معه او ضده: عندما يفتح تحقيق للاشتباه بمخالفة جنائية يشارك فيها زعيم وطني، هل يمكن أن يدار وكأن الحديث يدور عن مواطن عادي، في ملف بوزاغلو؟ هل تتشابه توقعات المحققين؟ هل رد فعل المشبوهين الآخرين في الملف مشابه؟ هل سلوك المحقق معه مشابه؟
ما تعلمته في الثماني سنوات منذ فتح التحقيق، أن جواب كل هذه الأسئلة هو “لا”، بلا لبس: إيجاباً وسلباً. بكل معنى الكلمة، قوة ومكانة نتنياهو رافقتا الملفات التي يتهم بها كالظل. من يعتقد خلاف ذلك يتساذج أو يدس رأسه في الرمال.
قد نبدأ بالتسهيلات التي منحتها الشرطة والنيابة العامة لنتنياهو وعقيلته ومحاميه. ما كان بوزاغلو يتجرأ على الطلب. قد نواصل المسيرة التي اجتازها المفتش العام روني الشيخ، والمستشار القانوني للحكومة افيحاي مندلبليت، والقرارات التي كانا مطالبين بها على الطريق. كان مندلبليت معجباً بقدرات نتنياهو وبرؤياه وخدمته بإخلاص أثناء ولايته كسكرتير الحكومة. جاء ألشيخ من المعسكر السياسي ذاته. كل منهما صُدم بدوره حين استنتج أن سلوك الرجل إجرامي. ألا تؤثر الصدمة؟ بالتأكيد تؤثر.
المستشار القانوني للحكومة ليس رأساً صغيراً. عندما يتوجه لاتخاذ قرار على رفع لائحة اتهام ضد رئيس وزراء، فإنه ملزم بأن يقدر مسبقاً احتمال الإدانة والطريق التي سيشقها الملف حتى نهايته التامة. ما هو الثمن بالزمن وباستثمار الطاقة. وفي حالة نتنياهو” ما هو الثمن في انقسام الشعب، وتدمير قيمه، وفي أزمة سياسية متواصلة؟ عندما أرى تمثال تميس، إلهة العدل في الأسطورة اليونانية، ويدها ممسكة بالميزان ومغمضة العينين، لست واثقاً بأن الثناء كبير بهذا القدر.
مندلبليت تردد بقدر غير قليل. الملف المؤكد الذي كان على طاولته هو ملف 1000، ملف الهدايا. الملفان الأقل تأكيداً كانا 4000 و2000. كان ينبغي أن يؤدي نهجاً عملياً إلى التركيز على ملف 1000. الإدانة – إذا كانت إدانة – كانت ستبعد نتنياهو عن الخدمة العامة – عقاب جسيم لإنسان بقوته ومكانته. كان يكفي هذا. لكن مندلبليت ورجال رجالات النيابة العامة، أرادوا أكثر. ليس كرهاً لنتنياهو بل خوف منه. ربما يكون ملف 1000 أصغير مما ينبغي من صورة نتنياهو في نظرهم. فوسعوه أيضاً وأعطوه تنزيلات كما أطالوا المحاكمة إلى حجوم وحشية.
ما الذي يجلبنا إلى الحدث في الطابق ناقص 2 للمحكمة أمس؟ نتنياهو لم يظهر كمن فرصة قول الحقيقة وقالها أخيراً بعد انتظار ثماني سنوات، بل بدا كمن يكرر عشرات خطابات الضحية التي ألقاها على مدى السنين، بما في ذلك الخطاب الذي ألقاه للأمة أول أمس. الخطابية إياها، والتباهي الذاتي إياه، بعضه مثبت، وبعضه مختلق. من جهة، قصص عن كيف يمكن للانشغال بالأمن والجيش أن ينزع منه نومه ووقت فراغه العائلي، ومن جهة أخرى تجاهل معنى القول بالنسبة لمسؤوليته عن 7 أكتوبر. مجال راحة نتنياهو مليء بالتناقضات.
هكذا سيستمر الأمر في الأيام القادمة. من يعول على الاستجواب المضاد، ينتظر أكثر مما ينبغي. بالنسبة له، ستكون هذه تجربة غير لطيفة، لكن بخلاف تحقيقه في الشرطة الذي صور وأصبح شريطاً محرجاً، فهذا الاستجواب لن يصور. نتنياهو شهد أمس بأنه طور جلدا سميكا طوال سنين: لا يهمه ما يقولونه ويكتبونه عنه. إذا كان لا يهمه، فلماذا لا يتوقف عن الشكوى.
ناحوم برنياع
يديعوت أحرونوت 11/12/2024