ثقافة وفنون

لعبة الكتابة في متواليات “الدكتور نازل” لطالب الرفاعي

لعبة الكتابة في متواليات “الدكتور نازل” لطالب الرفاعي

علي حسن الفواز

يُمثل الذهاب إلى خيار سردنة الهجنة الأجناسية وعيا بفاعلية التجاوز، وبشغف الكشف عن تقانات جديدة في بنيات السرد، وفي تسويغ علاقة هذه الهجنة بتحرير النص من السياق، ومن الرتابة، وتحويل مغامرة الكتابة إلى لعبة فائقة في التعرّف على» الطريق إلى المعرفة، باعتبارها وسيلة ناجعة في الكتابة، وفي فهم تكوين المعنى في الخطاب» على طريقة فيغنشتاين، أو إلى موقف تصنعه هذه الكتابة عن العالم، من خلال توسيع مساحة وظائفية القص، وتغذيته بما تصنعه اللغة من استعارات ومجازات تستغرق رؤية القاص، وتكشف عن خبرته في سردنة تلك الهجنة.
المتوالية السردية، أو القصصية شكلٌ اجرائي لتنفيذ فكرة هذه الهجنة، عبر تقويض مركزية السرد النمطي، وعلى نحوٍ يصطنع للنص الجديد/ النص الهجين، أفقا للمغامرة، ولتوليد مسارات متشظية، تجعل القص مكشوفا في لعبة المؤلف، وفي مهارته على تحويل ذلك القص إلى متوالية ينمو عبرها الحدث، وحركة الشخصيات، يمكن تتبع تحولاتها، على مستوى ـ المكان، الزمن، الصراع – وعلى مستوى قصدية المؤلف في تشغيل وحدات الكتابة، وفي ما تستدعيه من تشكلات تسحب القص إلى ما وراء الواقع، مثلما تسحب التاريخ إلى السرد..
المتواليات القصصية التي كتبها السارد الكويتي طالب الرفاعي تحت عنوان «الدكتور نازل» والصادرة عن دار السلاسل/ الكويت/ 2024 وضعتنا إزاء وعي فارق لسردية المؤلف، ولرؤيته في اصطناع شخصية تؤدي وظيفة متوالية من خلال تشييد مستويات الحكاية، عبر أسطرة وجودها، وجعلها شخصية إطارية، تمتد عبر السرد لتخترق الواقع، ولتجعل من حكاياتها/ متوالياتها مسكونة بطاقة التحول، وبشغف الانخراط في إجراءات تجعل من القص مهجوسا بالتمرد على التجنيس، مثلما تجعل الشخصية الإطارية/ الدكتور نازل تحتفي بوجودها، عبر بروتوكول سردي يقترحه لها المؤلف، فيتبع تحولاتها عبر أقنعته، وعبر تصاعد وجودها الطفيلي، وعبر تمثّلها السيميائي الذي يجعل من تلك الأقنعة وسائط للتعرّف على مفارقاتها، وعلى ما يجعل المتوالية القصصية خيارا فنيا له خصوصية سردية في تمثيل التحوّل الذي تعيشه، وفي تعرية ما تُخفيه خلفها من تشوهات، ومن علاقات شائهة، في اغترابها الوجودي، وفي انتهازية علاقتها بالآخرين، حتى يبدو صراعه معهم محكوما بما تقترحه مركزية الأنا، وعبر ما يساكنها من شهوة للاستحواذ، تتغذّى به بنيتها السردية من خلال تشوهاتها الداخلية، فهي شخصية بلا ظل، تمارس مكرها عبر العالم الذي تصنعه، في الجامعة والمؤسسة والمجلة والشركة، وفي العلاقات مع الزوجة والأصدقاء والعائلة، بما يجعل الشخصيات السنيدة متورطة في عالمه الزائف- الزوجة دلل، البنت دلول، السكرتير مهاود والولد نزول- وكأن المؤلف أراد أن يجعل من متوالياته القصصية لعبة للتعرّف على أسرار هذه الشخصية النافرة عن اسمها، وعن وجودها، فيرصد تنامي أزمتها الداخلية، وأزمة تحولها الكاركاتيري في الواقع واللغة والمكان، وفي تمثيلها لبراديغمات جيل مكشوف على عوالم الاستهلاك والاغتراب، حيث يتغذى وجوده عبر شهواته الطفيلية، وعبر انغماره في الفساد المؤسسي والعلمي، الذي يصنع بعضه «الدكتور نازل» بطل الجحيم الأرضي، وصاحب يوميات السيرة الدوستوبية.

العنوان وسيرة الشخصية..

يحمل عنوان المتوالية القصصية سيميائية فاضحة، يكتسب عبرها اسم «نازل» بعدا خارقا ومفارقا للمألوف، فهو يتضاد في سرديته مع الصفات الدالة لـ»الدكتور» و»الأستاذ الجامعي» و»مدير الشركة» و»رجل الأعمال»، بما يجعل عتبة العنوان، تمارس وظيفة ضدية، لها شيفرة المفارقة، ولها استثارة شهوة القراءة، وملاحقة تحولات شخصية البطل «نازل»، عبر تتبع ما يؤديه من أدوار ووظائف أخرى، حتى تبدو الإحالة اللغوية للعنوان اكثر تمثيلا للخرق الواقعي، ولتعرية المخبوء خلف أقنعة السرد، وفي يومياته الخائنة والمخادعة، وباتجاهٍ يجعل من ذلك الوجود الواقعي الزائف استبطانا لما سمّاها فيليب روث بـ»الواقعية الرثة».
ليس هذا العنوان محايدا، ولا بريئا، فهو يستدعي تأويلا واستغوارا، تتبدى من خلالهما ثيمات الصراع الداخلي والخارجي، التي ترسم ملامحها وحدودها قصدية المؤلف، وهو يستدعينا إلى داخل «مختبره السردي» لنشاركه لعبة التفرّج على تحولات بطله، وعلى شراهته في تقويض العالم الذي يحوطه، فما تُخفيه أقنعة «الدكتور نازل» يتماثل مع ما يتخفى في الواقع من حيوات زائفة ومشوهة، ومن علامات توحي بالسخرية من القبح والخرافة والطفيلية، بوصفها محمولات لتمثيل ما هو «مسكوت عنه» في الواقع، حتى تبدو يوميات «نازل» وعلاقاته ومشاريعه وكأنها تمثيل فانتازي للواقع الكويتي، ونقدٌ للمخفي في بعض يوميات مؤسساته العلمية، وفي عوالم الشركات ورجال الأعمال، وما تضمره من أسرار وحيوات زائفة..

السرد ولعبة الكتابة..
تكشف حدود اللعب السردي في «المتواليات» عن شطارة السارد ومهارته، في الانحياز إلى كتابة نصٍ مختلف، يوحي بقصدية اغتراب السارد عن قصصه، وفي تحويل لعبة السرد إلى مجال سيميائي، تتبأر عبره دلالات الأحداث، ليجعل من «المتوالية القصصية» انموذجا مفتوحا للتشكيل السردي، من خلال تحريك زاوية النظر عبر عين الكاميرا، وعبر توظيف تقانة الميتاسرد والسكيج القصصي، مثلما تجعل من شخصية «الدكتور نازل» شخصية بؤرية، تتمثل حركاته، من خلال زمنه النفسي والاجتماعي والعلمي، بوصفه شخصية «لا منتمية» تعيش انفلاتها الوجودي، عبر الخديعة والانتهازية، وعبر الاحتيال على الواقع، وفي تمثيل ما يشبه نوعا من «الواقعية السحرية»، حيث الاغتراب عن الواقع، وخرقه، واصطناع «أساطير يومية» يجعل منها المؤلف جوهر لعبته، في التأليف، وفي تحويل شخصية الورق بتوصيف رولان بارت إلى شخصية جاذبة، مثلما يجعلها أداة لسخريته النقدية، ولتسويغ شغفه بالكتابة الجديدة، وبهوس رغبته في مغايرة تجنيس الكتابة، من خلال صيغة «المتوالية القصصية» وارتهانها إلى شخصية بطلٍ إشكالي، يتقنّع ويتحول، فيضع وجوده المتخيل إزاء واقع غرائبي، حيث يستفزه لتوليد تحولات صادمة، يبدو فيها «الدكتور نازل» وكأنه كناية عن صدمات فارقة لـ»الزمن النفسي» أو حتى «الزمن السياسي» و»الثقافي» الكويتي، فيعمد إلى كشفها، وإلى فضح ما يتوارى خلف أقنعة شخصياتها، وانخراطها البراغماتي في عوالم الثقافة الأحادية والاستهلاكية المتماهية مع عولمة الغرب ومركزيته..

المتوالية واستقواء السرد..

يمكن أن نعد سردية المتوالية القصصية من أنماط الكتابة الصعبة، فهي تجمع بين كثافة القص، وربط هذا القص بخيط يتمثله اتساقٌ سردي، وإجراءات تجمع زمن القص وزمن الشخصية، عبر يوميات يتشظى من خلالها المكان، إلى وحدات صغيرة، مفارقة، لكنها تعتاش على تحولات «شخصية المتوالية» وعلى أدوارها التي لا تتشابه، فتلتقي عند خرق المألوف، وعند ما تصنعه من علامات، من نقائض لها، ومن تحولات يعيشها المجتمع الكويتي مثل أي مجتمع حديث، حيث تكون أقنعة الدكتور نازل هي «نصوص مفارقة» لها مؤلفها الذي يصنع تلك النصوص، وفق «بروتوكول» التأليف القائم على أساس خبرة المؤلف في ترسيم وظائف شخصيته، وفي إعطائها نوعا من «الدونكشوتية» التي تصطنع مجدا زائفا، وقوة هشة، وأن يجعل فاعلية السرد تستقوي بتقانة اصطناع تشكيل سردي تتوازى فيه المتواليات مع الواقع، فبقدر ما تحضر قصدية المؤلف، ورؤيته الإطارية في سردنة تلك المتواليات، فإن ما يتبدى لا يخرج عن لعبة القص، ولا عن كتابة «النص الخارق لجنسه» الذي يؤسس مشغله على أساس استدعاء فاعلية «المؤلف» لتمارس دورها عبر توظيف وسائط سردية متعددة، مثل تقانات «الميتا سرد» وطاقة التخيّل، وأسطرة الواقع وتسحيره، عبر تتبع التنامي السردي في المتواليات، فالمتوالية الأولى «شهادة تاون» تحضر بوصفها تمثيلا لرمزية الخراب التعليمي والمعرفي، والزيف الذي توحي به علامة «النزول» وبدء السيرة الطفيلية، عبر تأسيسه شركة «بخور كيو أيت» وشركة «الكذب العالمي» لتتوالى معها «نزولات» أخرى تحمل شيفرتها زوجته «دلل» التي تبدو وكأنها قناعٌ آخر يضافُ إلى أقنعته الغامضة، حيث تُخفي وجودها الطبقي والاجتماعي والثقافي عبر نزعتها الاستهلاكية والاستعراضية..
سردية المتواليات تجربة ضافية لمنجز طالب الرفاعي، وفي توسيع مجال مشغله السردي، وفي تحويل تلك المتواليات إلى نهج نقدي، دأب على تكريسه في رواياته وقصصه، فروح النقد والسخرية في المتواليات تتصاعد، وتتقاطع، وكأنه أراد أن يحافظ فيها على ثنائية المؤلف والسارد، أو بين الواقع والسرد، وهو ما بدا واضحا في المتوالية الأخيرة «رقابة» حيث وجد نفسه في مواجهة رمزية مع الواقع، حيث سلطة المؤسسة، وهي ترفض لعبة السرد التي لجأ اليها، ومن تحويل شخصيته الورقية إلى شخصية واقعية، ساخرة وناقدة للواقع الغامر بكثير من المفارقات..
الوظائف ولعبة التأليف.
وظائف الشخصية الرئيسية/ الدكتور نازل، تتجوهر حول الوظائف التي تؤديها في المتواليات، والتي تعكس الطبيعة الفارقة لتحولاتها، ولعلاقتها الزائفة في الواقع، وأن تتبع صعوده المثير، يتحول إلى تتبع محنة الواقع ذاته، بدءا حصوله على الشهادة العليا/ شهادة تاون بقوة المال، وزواجه من شخصية تشبهه، مولعة بالمظاهر والاستهلاك، يجعل من الوظائف التي يمارسها في ما بعد في التنمية البشرية، وليس انتهاء في تأسيس مشاريعه الفانتازية – من خلال إصدار مجلة «النازلة نيوز» وإنشاء شركات «نازل للتوصيل الفوري» «طب وتخير للتوصيل» و»اشتر وعلينا التوصيل»، فضلا عن ربط نجاح شركة البخور مع تطوير التعليم في الكويت، وصولا إلى إنشاء شركة لإدارة شؤون الكذب العالمي، وتحت يافطة أن «العالم من أقصاه إلى أقصاه يكذب بعضه على بعض، المفكرون والفلاسفة، المسؤولون، دكاترة الجامعة، الكتّاب الصحافيون، وممثلو هوليوود» وكأنه بهذا التوصيف يمارس نوعا من التعمية والفضح والتعرية للواقع الذي يعيشه، ناقدا أو ساخرا، أو فاضحا لما يجري في سرائر عالم المدينة..

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب