أي ميلاد نحتفي به؟
واسيني الأعرج
كم تمنينا أن يكون عالم اليوم أفضل من عالم البارحة، وعالم اللحظة أفضل من عالم التاريخ، لكن يبدو أن الحروب القاهرة، حروب القوي على الضعيف، هي المهيمنة، هي الحاضرة دوما وهي المقياس الحقيقي ومخبر اختبار إنسانية الإنسان. ما هي مشهدية اليوم المتكررة حياتيا وإعلاميا؟ الطغيان الإسرائيلي المطلق في مواجهة عالم ضعيف، ومنهك ومنتهك من الأنظمة الفاسدة والعمالة والسيطرة والبيع والشراء من تحت الطاولات وفوقها. وهذا لم يحدث للعرب حتى في أبأس فتراتهم. ما نلحظه اليوم، غطرسة إسرائيلية غير مسبوقة، وتأمين أمريكي كامل لخصر إسرائيل الضعيف، أمريكا التي ما تزال تتحدث عبثا عن الصداقة العربية الأمريكية، والتي تعني الانصياع الكلي وتطبيق لها دون حضور لساني أو مادي والامتثال لأوامر كما في الإمبراطورية الرومانية؟ حركة العرب ضاقت حتى أصبحت غير محسوبة في القرارات الأممية. ممزقون كليا يسيرون وفق أهواء الآخر وإملاءاته. وليس أي آخر ولكن الذي لا يريد لك أي خير. بينك وبينه تاريخ من الحروب في ظل هزائم عربية على كل الاصعدة. سماء عربية عارية كليا لا تحميها طائرة واحدة او مسيرة قادرة على صد العدوان. تعربد إسرائيل كما لو أنها سماءها في ظل قانون دولي أعمى. وتسميها حربا وهي حرب من طرف واحد يملك وسائل التدمير كلها من النووي حتى السلاح الاستراتيجي والكلاسيكي وراءه امبراطورية كلها في خدمته. هو من يقرر شكل الاتفاقيات المختلفة ومداها والحق في نسفها وضرب من يرفع صوته فوق ما هو مسموح به (اتفاقية لبنان). كل سماء لا تدافع عن نفسها بحق هي سماء صماء، من حجارة لا صدى فيها. القوانين الدولية، الحامية للضعيف عادة، اصطفت مع القوي، لم تعد تنفع في شيء. القوي هو من يسطر مفاهيم الجيد والسيء. القوي لا يؤول فقط ما يشاء ولكن له الحق في لي عنق القوانين وتجييرها بما يخدم مصالحه او حتى رفضها كليا عندما تتضارب وأهدافه. القانون يحمي القوي حتى من تهم الإبادة الجماعية (نتنياهو) التي ما يزال يمارسها حيث الجثث في كل مكان في جباليا على سبيل المثال فقط، ولا أحد يرفع اصبعه الصغير ويدين إلا مجموعات قليلة غير محسوبة في ظل ترسانة إعلامية هي ملك للأقوى. بل إن انهيار القانون الدولي أصبح حقيقة ملموسة. لأول مرة يقف بجانب القاتل ويهدد القضاء الدولي الذي حكم عليه. قيمة البشر تختلف المقتول الإسرائيلي ليس هو الأمريكي وليس هو الأوروبي وليس هو بقية “الزوائد البشرية” يعني سكان العالم غير المفيد وغير المحسوب. فهم في أدنى مراتب السلم المجتمعي ومنهم العرب. العربي الذي يعيش الغرب اليوم رفاهه بفضل نفطه وترابه وفوسفاته، ويعيش كهرباءه وراحته وقنابله الذرية الحامية له بفضل اليورانيوم الموجود على أراضيه، لا قيمة له مطلقا وهو في عداد الأموات. عدنا إلى عصر الهمجيات الأولى حيث القوي والمجهز بأدوات الإبادة هو المؤهل للعيش. يقتل الفلسطيني في غزة، في جباليا ويُترك في مكانه ممزقا، بلا قبر، تأكله الجرذان والكلاب والقطط الجائعة بينما يغلف الإسرائيلي المقتول في المواجهات نفسها في القطن وحرير التوابيت تحت البارود الشرفي والجنازات الكبيرة؟ أية إنسانية نبتت في القرن الأخير أي القوانين لردع القتلة؟ كأننا انحطينا في عصرنا ما كنا نخجل منه، أي الإبادة الجماعية لأية مجموعة تطالب ببعض حقوقها. المعادلة واضحة: مائة رهينة (نتمنى أن يعودوا إلى اهاليهم بسلام، المدنيون على وجه الخصوص) تساوي 50 ألف ضحية فلسطينية وأكثر، وعالما يركض في كل الاتجاهات لإخراج هؤلاء من ضيق الحجز بينما لا مشكلة أن يموت آلاف الفلسطينيين واللبنانيين مقابل ذلك. من حق الرهينة أن تجد حريتها بالخصوص إذا كانت مدنية، لكن من حق الفلسطيني أيضا أن يعيش في أرضه التي سرقت منه بعنف، وتسرق منه اليوم بشكل معلن. بعنف غير مسبوق وأمام مشهدية عالمية أمريكية- أوروبية تحمل عقدة ذنب تاريخية [الهولوكوست] التي ليس للعرب فيه أي مسؤولية. مثلهم مثل إبادة الغجر التي لا يتحدث عنهم أحد ولا ينتبه لهم أو يتغاضى عنهم المختصون في درس الإبادات.
إسرائيل تدافع عن وجودها. هذا هو الخطاب الغربي النفاقي السهل [لا يهم كيف تم فرض هذا الوجود] بينما الفلسطيني الذي طرد من أرضه، ويقتل يوميا في كل المدن الفلسطينية، وفي كل مخيماتها من جنين إلى نابلس إلى طولكرم وإلى مخيمات تمحى من على الخرائط ولا يهم عدد القتلى، فعدادات الأموات توقفت عند الغرب الاستعماري تفاديا لإحراج القاتل الإسرائيلي تحديدا بالسلاح الأمريكي والأوروبي والألماني، النازية الجديدة، بالخصوص. الضحية الأبدية هي تلك التي لا حق في الدفاع عن نفسها. حتى سوريا الجريحة، لم تسلم من جبروت الحق الإجرامي، فتم تدمير ترسانتها الحربية البحرية والجوية والبرية التي هي ملك للبلاد وليس لفرد. والاستيلاء على الأراضي السورية، كل ذلك تم على مرأى العالم دون ردة فعل من أحد، وكأن الاعتداء على بلد آخر، يدخل في نظام العادي بالخصوص إذا كان المعتدي إسرائيل. كيف يقبل العالم [الحر] هذا ولا ينبس بكلمة واحدة؟ ماذا كان سيحدث عالميا لو اعتدت سوريا (مجرد فرضية) على إسرائيل أو الأردن أو مصر؟ “العالم الحر” الذي لا تتعدى حريته شكله وجنسه وفلسفته وامتداده الغربي؟ الأكيد ستتحرك الأساطيل، وتدمر معاقل الاعتداء والإرهاب. هذه الرؤية الأحادية والإجرامية بتواطؤها مع القتلة بشكل “قانوني” أصبحت اليوم فكرية أيضا؟ العالم الحر الذي رفض التطرف الديني، يجعل اليوم من دولة تمارس إرهاب الدولة نموذجه الذي يجب الدفاع عنه، يقودها حزب يميني كبر في الجريمة والتقتيل (الليكود) ومتطرفون دينيون قتلة لا يختلفون في شيء عن الإرهابيين الإسلامويين الراديكاليين. أي فكر سينتج في هذه الفترة؟ باستثناء الفكر التبريري؟ عندما أرى بعض الذين حاربوا التطرف الإسلاماوي يقفون في خندق واحد مع الإرهاب الديني اليميني في إسرائيل أتساءل هل بقي للتنوير مكان؟ هل الفكر وصل أيضا إلى هذه الدرجة من الانحطاط؟ باستثناء بونيفاس المحاصر الذي لم يخرج عن موضوعيته مع مركزه العلمي إيريس، ووزير الخارجية السابق دوفيلبان والكاتب الفرنسي إيمريك وبلييل وغيرهم قليل أصبحوا يشكلون الأقلية التي يتم خنق صوتها الصادق. الجيش العرمرم من عقلانيي الصهيونية مثل بيرنار هنري ليفي وفيلكنكراوت وزمور وغيرهم نبتت لهم أجنحة جديدة ويدافعون عن حق إسرائيل في إبادة الفلسطينيين وكل من يقف معهم. كل من يرفع صوته يوصف بمعاداة السامية أي ضد إسرائيل. لم تعد اللاسامية مرتبطة بدين ولكن بنظام صهيوني قهري اسمه إسرائيل. أي فكر ينتظرنا سينشأ على هذه الأنقاض؟ وبعد هذا السقوط المريع الذي يجسد حقبة تأرجحت فيها البشرية بين الجبن والشجاعة قبل ان تسقط في تزكية الجريمة نظرا لجبنها في مواجهة أخطائها. كل ما ابتلعناه عن الحرب العالمية الثانية وجرائمها وثقافتها يأتي من منطق المنتصر أي الحلفاء لكننا لا نعرف إلا القليل من جهة المهزوم. السينما الألمانية بينت في السنوات الأخيرة أن هناك الكثير من الأشياء المخفية بدأت تخرج. لسكان برلين رأيهم في الحلفاء الذي قتلوا ونهبوا.
ها هو الميلاد يعود بأعياده محاطا بالمذابح والحروب التي تحيط بنا. كيف نفرح بعالم جميل نفترضه آت؟ وكيف نحزن من عالم نعيشه يوميا بالمزيد من الإرادة لكي لا نسقط في اليأس لدرجة أن أصبح التفاؤل خيارا وقدرا ولا شيء غيره.