ثقافة وفنون

ظننته فيصل: البحث عن بديل هروبا من الواقع!

ظننته فيصل: البحث عن بديل هروبا من الواقع!

عاطف محمد عبد المجيد

أصبحت أقرب من حافة الموت النفسي، فأنا أعي تماما أني لست امرأة طبيعية كباقي النساء، وهذا ما أرادت أمي توضيحه لي، علّها بذلك تساعدني، لكنها فتحت شهيتي أكثر للعزلة والبقاء بالقرب من فيصل، تلك الشخصية التي خلقتها بذهني، علها تساندني وتؤمن بي وتصدق وجودي. هذا المقطع نقرؤه في رواية الكاتبة عبير حامد الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة بعنوان «ظننته فيصل»، وكم كان، وفق وجهة نظري، سيكون أكثر قربا لعالم الرواية لو جعلت اسمها «اختلقتُ بديلا». في هذه الرواية نطّلع على سيرة امرأة اغتصبتها الحياة أشد اغتصاب، وداسها الفقر تحت عجلاته الثقيلة، كم مرة باتت في الشوارع، وكم من المرات أكلت من حاويات القمامة لتسد جوعها، وكم اضطرت لتعمل أعمالا لم ترضَ عنها، بعدما لم تجد لها مأوى، ما جعلها تتحول إلى امرأة مريضة نفسيّا، تحاول الفرار من واقع حياتها إلى الخيال، متوهمة أحداثا وأشخاصا لتهوّن عليها قسوة الحياة ومآسيها، وبعيدا عن تناول فنيات الرواية فإنها رواية مؤلمة، تُحدث جراحا في النفس وتصيبها بآلام لا طاقة لها بها، ويأسا ينمو ويتكاثر مع مرور أحداثها.

الحقيقي والخيال
في «ظننته فيصل» التي تُنهي الروائية كل فصولها، عدا الفصل الأخير، بإحدى مقولات محمود درويش، مفتتحة إياها بمقولته التي يقول فيها إن اللامبالاة فلسفة، إنها صفة من صفات الأمل، ولنا أحلامنا الصغرى، كأنْ نصحو من النوم معافين من الخيبة، لم نحلم بأشياء عصية، نحن أحياء وباقون، وللحلم بقية، نجد أنفسنا أمام امرأة تشك في كل شيء، تتوهم حدوث أشياء لم ولن تحدث في الواقع، تتخيل أنها تتعامل مع أشخاص غير موجودين بالمرة في الحقيقة، إذ هي لا تميز بين الحقيقي والخيال، تسكنها الهلاوس والخيالات: لا شيء حقيقيا! إذ كنت أتوهم ما جرى، أخذت أبكي بكاء جنونيّا، وأمي ممسكة بيدي وتشاركني البكاء. الراوية التي تُسمى ياسمينة، ياسمين فتحي مع تطور الأحداث، تقر هنا أنها عاشت عمرها في الوهم إثر تعرضها لاعتداء جسدي من رجل كانت تظنه أباها، وهي لا تزال طفلة صغيرة، لكنها تكتشف بعد أن تكبر أنه عشيق أمها، الذي أنقذها هي الأخرى من اعتداء شخص آخر عليها، ما جعل الجروح تتراكم داخلها وتختل موازين الحياة أمامها، وتُغتال رغبتها في أي شيء سوى في الظلام الدامس، غير أن الرواية التي تحكي لنا قصة طفلة ولدت بلا هوية لأم تعرضت للاغتصاب، وظلت حياتها يرافقها شعور بأنها نكرة ولا قيمة لها، الأمر الذي اضطرها إلى أن تلوذ بهلاوسها وبخيالاتها، مُحاولِة تخفيف وطء ما تحمله وما تعايشه من آلام وصدمات حولتها إلى كائن يعيش دون مشاعر، لا فرق بينه وبين الجمادات التي لا تشعر ولا تحس. أيضا نرى هنا، في «ظننه فيصل»، أنثى عانت في حياتها من الرجال، بداية من ذاك الرجل الذي تحرش بها في السوق، ثم اغتصاب عشيق أمها المتكرر لها، فزواجها الأول من جاد وهي لا تزال طفلة، وبعد ذلك زواجها من سيف الذي توهمت أنها على علاقة بأخيه فيصل الذي مات قبل أن يعرفها: رغم معرفتي التامة بحالتي المرضية ومتلازمة جوسكا التي أعاني منها، وأن فيصل ما هو إلا رجل قررت أن أوجده في حياتي، لقد أحببت فيصل، فهو عالمي الخاص الذي أبحث عنه، بل أوجده في خيالي متى شعرت بالحاجة إليه، ولن أتخلى عنه، إنه حديثي مع ذاتي الذي يخلق في حياتي الراحة والطمأنينة والأمان.

علاجها الوحيد
إنها تبحث هنا عن مكان أو شخص يعالج العنف الجسدي الذي تعرضت له، تختبئ بين أحضانه، هاربة من هجوم الحياة عليها، طامحة إلى الشعور بالأمان الذي ظلت طوال حياتها مفتقدة له، لهذا رفضت واقعها، وأبت إلا أن تبقى في خيالها، فأعادت فيصل إلى حياتها من جديد، واكتفت به مبتعدة عن محيطها باقية بجانبه حتى انتقلت إلى مثواها الأخير لتلتقيه هناك، إنه ملاذها ومأمنها وأمانها وحلمها الذي لن يتحقق. «ظنتته فيصل» الرواية التي تهديها عبير حامد إلى كل امرأة، سواء أكانت أمّا، أختا، أم ابنة، قائلة لها إنها من حقها أن تعيش بسلام، أن تنتفض وتصرخ وتعبر عما في داخلها، ألا ترضى بأنصاف الحلول، وإنها من حقها أن تخطئ وأن تصحح خطأها وتتعلم منه دروسا، مطالبة إياها ألا تكون مثلما يريدون، وأن تكون قوية، تجعلنا نكره بعض جوانب الحياة، نكره الفقر، العنف، الاعتداء على الآخرين، مشيرة إلى كمِّ الظلم الذي يقع على الأنثى في بعض المجتمعات، نتيجة للفقر، أو للجهل، تريد أن تلفت انتباهنا كذلك إلى أن الحياة جميلة، ولا بد لنا من الاستمتاع بها بالطريقة الصحيحة، وأننا لن نجد الليل مظلما إذا وجهنا أنظارنا إلى نجومه المضيئة، وأن الكتابة علاج وحيد، وخلاص لنا جميعا مما نحن فيه. كذلك تريد الرواية أن تقول لنا إننا، لكي لا ندخل في صراعات مع الحياة، علينا أن نحب أنفسنا، أن نتقبلها كما هي، أن نتصالح معها، وإننا متى غيرنا نظرتنا لأنفسنا وأفكارنا ومشاعرنا، تغيرت الأمور التي ننظر إليها كذلك، وإن الطبيعة أهدتنا سيمفونية عذبة نقية لمن يدرك قيمتها.

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب