بمناسبة ترجمته إلى اللغة الصربية.. «السارد والتشكيلي»… رحلة بصرية في تناول أعمال نجيب محفوظ
بمناسبة ترجمته إلى اللغة الصربية.. «السارد والتشكيلي»… رحلة بصرية في تناول أعمال نجيب محفوظ
محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ لم تنضب بعد المؤلفات والدراسات والمقالات التي تتناول أعمال نجيب محفوظ (1911 ــ 2006) ـ الذي مرّت ذكرى ميلاده هذا الشهر ـ كمحاولة لاكتشاف عالمه الإبداعي من وجهات نظر مختلفة. إلا أن اللافت هو مدى تأثير كتابات الرجل في الفن التشكيلي، سواء من خلال الحكايات أو الشخصيات، التي أصبحت تمثل بمفردها ثقلاً ودلالة في وعي الشعب المصري، كـ(سي السيد) و(الست أمينة) على سبيل المثال، كممثلين للعلاقة بين الرجل والمرأة، أو شخوص تدل بذاتها على موقف اجتماعي وسياسي (سعيد مهران) و(محجوب عبد الدايم)، أو ميتافيزيقي (الجبلاوي) و(عاشور الناجي). والتساؤل هنا يدور حول الفنان التشكيلي من حيث علاقته وكيفية تعبيره عن عالم نجيب محفوظ، بخلاف أدوات وأسلوب هذا التعبير، لتأتي الإجابة من خلال كتاب «نجيب محفوظ .. السارد والتشكيلي» للكاتب أشرف أبو اليزيد، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 2018، والصادرة ترجمته للصربية منذ أيام.
التجسيد
يستهل المؤلف عمله بذكر لمحة عن المعمار البنائي والتجسيد في كتابات محفوظ، من حيث العناية بدقة تصوير السرد للفضاء التشكيلي، سواء للمكان أو الشخصية، وعلاقة كل منهما بالآخر، ناهيك عن البناء الروائي ذاته، ومحفوظ «حتى عندما يتجه إلى مناطق الإيهام والحلم، فإنه لا يهمل التجسيم، بل يؤكده للدرجة التي توهم بواقعية المشهد».
المشهدية
تناول الفنان الحسين فوزي (1905 ـ 1999) أعمال نجيب محفوظ من خلال نشرها في مجلة «الرسالة الجديدة» بداية من عام 1954، وهو أول فنان غرافيك مصري، وقدّم رواية «بين القصرين» مسلسلة على صفحات المجلة ـ تشارك معه في البداية كل من الفنانين حسن محمد حسن وسميحة حسنين ـ وكذلك رسوم رواية «أولاد حارتنا» في جريدة «الأهرام» عام 1959. ومن سمات الفنان وأسلوبه أنه «يتناول العادات والتقاليد الشعبية في المجتمع المصري، فصور الناس بواقعهم العادي البسيط.. ومحاولة ترجمة العناصر التشكيلية بلغة الوصف الأدبي». فالفنان هنا كان ملتزماً بالتفاصيل ودقتها، ما اقترب بها أكثر من المشهد السينمائي وأحجام اللقطة السينمائية .. كالاكتفاء بالنصف العلوي من الشخصيات في تجسيد مشهد حواري.
البورتريه
ونأتي لأشهر مَن جسد أعمال نجيب محفوظ طوال عقود، وهو الفنان جمال قطب (1930 ــ 2016)، المتخصص في فن البورتريه، من خلال الطبعات المختلفة والصادرة عن مكتبة مصر لصاحبها الأديب عبد الحميد جودة السحار، صديق نجيب محفوظ. مع ملاحظة أن قطب قام برسم أعمال العديد من الأدباء وقتها، أمثال.. يوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس. ونأتي لرؤية قطب نفسه في تعامله مع نصوص محفوظ، فيقول.. «دوري الفني يقتضي نقل رؤية الأديب الخاصة … فأنا مترجم للعمل الأدبي إلى رسوم وصور، يمكن القول إن دوري هو (الموازي التصويري) للعالم الأدبي، وليكن معلوماً فأنا كنت القارئ الأول لأعمال نجيب محفوظ بخط يده طوال أربعين عاما». كذلك امتازت بورتريهات قطب بأن تتصدر أغلب الأغلفة (امرأة) تتباين شخصيتها وفق دورها في العمل، ولكنها «تبدو وكأنها ملامح للشخصية الواحدة التي تعكس الملامح المصرية، خاصة العيون الواسعة… من ناحية أخرى تظهر البطلة كشخصية غامضة لا تستطيع ملامحها البريئة أو القوية أن تحدد مكوناتها الإنسانية».
المرأة
أما التجسيد الأيقوني للمرأة في أغلفة ورسوم أعمال نجيب محفوظ، فيأتي من خلال لوحات الفنان حلمي التوني (1934 ــ 2024)، الذي اختصر الحكاية وتفاصيلها في امرأة، وهو ما استلفت الفنان، وجعله يقيم معرضاً بعنوان «نساء نجيب محفوظ»، قبل أن تظهر هذه البوتريهات على أغلفة روايات محفوظ، لنجد الشخصيات النسائية تتصدر أغلفة الثلاثية، ناهيك عن حميدة في (زقاق المدق)، وإحسان في (القاهرة الجديدة)، وسمارة بهجت في (ثرثرة فوق النيل). ويقدم الكاتب إحصائية توضح أن التوني «صمم 55 غلافاً في طبعة دار الشروق لأعمال محفوظ، منها 44 يحمل صورة امرأة، لتبدو الشخصية من ناحية اليمين أسفل الغلاف، وكأنها تستعد للظهور، قادمة من سطور الأدب إلى فضاء اللون».
الحارة وصخبها
وإن كان المشهد أو البورتريه أو حتى الاعتماد على شخصية كالمرأة، هو الذي يتصدر أغلفة الروايات ورسوماتها الداخلية، تصبح (الحارة) هي البطل الأساس في اللوحة/الغلاف، وهو ما مثلته تجربة الفنان صلاح عناني، الذي جسد عالم نجيب محفوظ من خلال الحارة المصرية وصخبها الذي لا ينتهي، ولعل لوحته الشهيرة «حارة نجيب محفوظ»، تعد من اللوحات الشعبية بمعنى أو بآخر، من حيث انتشارها ومعرفتها من قِبل الكثير من المصريين، دون المهتمين بالفن التشكيلي. ووفق أسلوب عناني من حيث المبالغة في نِسب أجساد الشخصيات وانفعالاتها، إضافة إلى الزخم والتفاصيل الكثيرة في اللوحة، إلا أن هذا الزخم والمعبّر بدقة عن عالم حواري مصر الإسلامية، حيث الموالد الشعبية والباعة الجائلين، والشخصيات الغريبة، تتوافق معه شواهد المقابر المعهودة، تعبيراً عن حالة التناغم التي يعيشها المصري مع أمواته، وهي سمة ضاربة في عمق اللاوعي المصري.
هذه بعض من تجارب حاول من خلالها الفن التشكيلي المصري التواصل والتعبير عن عالم نجيب محفوظ، إضافة إلى تجارب أخرى بوسائط مختلفة، منها أفيشات السينما التي تناولت أعمال نجيب محفوظ، والتي تأثر بعضها بأغلفة رواياته، خاصة أعمال الفنان جمال قطب، كذلك تطور الأمر إلى فن الغرافيتي، بتصوير شخصيات شهيرة من روايات محفوظ، وصولاً إلى عالم الكوميكس ــ ربما يستعرضه الكتاب في طبعات لاحقة ــ وتحويل أعمال نجيب محفوظ إلى روايات مصوّرة، منها «أولاد حارتنا»، «اللص والكلاب» و»ميرامار». ولم يزل عالم الرجل يؤكد مدى تأثيره في الفنون المختلفة، واكتشاف جمالياته وفق تطور هذه الفنون وتباين أساليبها ورؤية أجيالها الجديدة من الفنانين.