واشنطن تأمر باريس: ممنوع إطلاق جورج إبراهيم عبدالله
واشنطن تأمر باريس: ممنوع إطلاق جورج إبراهيم عبدالله
وفيق قانصوره
مرة جديدة، تتدخّل الولايات المتحدة للضغط على الدولة الفرنسية للاستمرار في سجن المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبدالله، رغم إصدار محكمة تنفيذ الأحكام الفرنسية، منتصف تشرين الثاني الماضي، قراراً بالإفراج عنه، ابتداءً من السادس من الشهر الجاري، شرط «مغادرته الأراضي الفرنسية وعدم العودة إليها».
ففي بيان قدّمته وزارة العدل الأميركية إلى محكمة الاستئناف الفرنسية في جلسة عقدتها في 19 الجاري بناءً على طلب النيابة الوطنية الفرنسية لاستئناف القرار، وحصلت «الأخبار» على نسخة منه، أكّدت الولايات المتحدة «معارضة الإفراج المبكر عن السيد عبدالله بشدة» ووصفت القرار بأنه «خطير للغاية»، و«لا يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة أو فرنسا أو لبنان».
وجاء في البيان الذي قدّمه إلى المحكمة ممثّل عن قسم الشؤون المدنية – مكتب التقاضي الخارجي في وزارة العدل الأميركية، أن «للولايات المتحدة مصلحة واضحة – مستقلة عن مصلحة الضحايا الأفراد وأفراد أسرهم الباقين على قيد الحياة – في حماية ممثّليها الدبلوماسيين والقنصليين، الذين تمّت حمايتهم من الهجمات التي قد يشنها السيد عبدالله طالما تمّ احتجازه بشكل آمن تحت الإشراف العقابي. وإذا تم الإفراج عنه، ولا سيما مع النية المحدّدة للانضمام مجدّداً إلى عائلته المرتبطة بالإرهاب، حيث سيكون حراً في متابعة أهدافه العنيفة من دون إشراف فعّال من المحاكم الفرنسية، فإن الحماية الحالية التي يوفّرها استمرار حكم السجن المؤبّد ستنتهي، وستتعرض جميع البعثات الدبلوماسية والقنصلية الأميركية لخطر متزايد». وأضاف أن «مسقط رأس عبدالله، بلدة القبيّات التي اقترح الانتقال إليها إذا تمّ الإفراج عنه، تقع على الحدود اللبنانية – السورية. وكما هو معروف على نطاق واسع، صرّح السيد عبدالله خلال محاكمته عام 1987 قائلاً: «أنا مقاتل، ولست مجرماً»، ولم يتخلَّ عن هذا الموقف حتى الآن. لذلك وبالنظر إلى رفض السيد عبدالله الموثّق للتنصّل من «المقاومة» ضد أي «احتلال» للبنان، وموقفه الثابت (وغير الصحيح) الذي يرى أن الحرب تبرّر العنف ضد الضحايا الأبرياء في هذه القضية، بالإضافة إلى القتال الأخير بين حزب الله وإسرائيل في جنوب لبنان، ترى الولايات المتحدة أن إرسال السيد عبدالله إلى لبنان، وخاصة إلى مسقط رأسه، سيكون له تأثير مزعزع للاستقرار في منطقة تعاني بالفعل من التوترات، وسيؤدي إلى خطر كبير بحدوث اضطرابات عامة»!
وزارة العدل الأميركية:
عودة عبدالله إلى لبنان
ستزعزع الاستقرار!
وعبدالله (73 عاماً) المعتقل منذ 40 عاماً هو أقدم سجين سياسي في أوروبا، ومحكوم عليه بالسجن مدى الحياة لإدانته بالتواطؤ في اغتيال دبلوماسييْن أميركي وإسرائيلي في عام 1987. ووافقت محكمة تنفيذ الأحكام الفرنسية أخيراً على الطلب الثاني عشر الذي تقدّم به العام الماضي، بعد رفض أحد عشر طلباً للإفراج المشروط عنه، باستثناء طلب واحد حين وافق القضاء في عام 2013 على طلب إفراج شرط أن يُكرّس بقرار طرد، الأمر الذي لم يصدره وزير الداخلية الفرنسي يومها مانويل فالس. لذلك عُدّ القرار الأخير إيجابياً، إذ قضى بالإفراج عنه وترحيله إلى لبنان فوراً من دون اشتراط اقتران إخلاء السبيل بتوقيع وزير الداخلية على الترحيل.
وحتى 25 شباط المقبل، موعد القرار النهائي في شأن الإفراج عن المناضل اللبناني، سيكون القضاء الفرنسي أمام امتحان لنزاهته المشكوك فيها، خصوصاً في هذه القضية التي تزخر بالدسائس والمؤامرات والتسييس، ما أبقى على عبدالله موقوفاً في خرق صارخ للإجراءات القانونية الفرنسية وللمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تنص على أن المحكومين بالسجن المؤبّد يجب أن يُطلق سراحهم بعد 18 سنة حداً أقصى. كما أنه بموجب القانون الفرنسي، أصبح إطلاق سراح عبدالله ممكناً منذ عام 1999، لولا رفض كل طلبات الإفراج المشروط التي تقدّم بها.
مصادر قانونية قالت لـ«الأخبار» إن البيان الأميركي المُسيّس «لا علاقة له بالقانون ولا يمكن التعليق عليه أو تفنيده بالقانون، لأن كلمة القانون قالتها المحكمة الفرنسية في قرارها الأخير، والكلمة النهائية ستكون لدى المحكمة الفرنسية التي ستنظر في الاستئناف المُقدّم من النيابة العامة». واستغربت المصادر وصف البيان الأميركي لقرار الإفراج عن عبدالله بأنه «إفراج مبكر» خصوصاً أن المناضل اللبناني أمضى أكثر من ضعفي محكوميته في السجن. كما استغربت ربط عائلته بـ«الإرهاب» من دون وجه حق، وسألت كيف يمكن للإفراج عن رجل في العقد الثامن من العمر أن يزعزع الاستقرار في لبنان!
واعتُقل عبدالله في تشرين الأول 1984، في مدينة ليون، بتهمة الانتماء إلى «الألوية المسلّحة الثورية اللبنانية» المتهمة آنذاك بتدبير عدد من العمليات الفدائية، وأبرزها اغتيال الملحق العسكري الأميركي في باريس تشارلز روبرت راي (18 كانون الثاني 1982)، والدبلوماسي الإسرائيلي يعقوب بارسيمنتوف (3 نيسان 1982). لكنّ السلطات الفرنسية لم تتوصل إلى أي أدلة تدينه، باستثناء منشورات تدل على انتمائه إلى «الألوية» وجواز سفر جزائري مزوّر. لذا، لم توجَّه له حين مثُل أمام المحكمة للمرة الأولى، في تموز 1986، سوى تهمة واحدة هي «استعمال وثيقة سفر مزوَّرة».
وفي 6 آذار 1985، دوَّن مستشار الرئيس فرنسوا ميتران، جاك أتالي، في يومياته، التي نُشرت عام 1988 في كتاب مذكّراته عن «سنوات الإليزيه»: «لا تتوفر لدينا أي أدلة ضد جورج إبراهيم عبدالله. لذا، لا يمكن أن توجِّه إليه المحكمة أي اتهام آخر سوى امتلاك جواز مزوّر». تلك التهمة كان معناها أنه سيغادر السجن بعد أقل من 18 شهراً. لكنّ قضيته لم تلبث أن سلكت وجهة مغايرة تماماً، بعد «مؤامرة قضائية» لُفّقت ضد المناضل اللبناني، وفق المحامية إيزابيل كوتان باير التي كانت عضو هيئة الدفاع عن عبدالله، مشيرة في مقابلة صحافية إلى أن عبدالله «استُدعي إلى المحكمة، على نحو مفاجئ، في 28 شباط 1987، وفوجئنا بتهم مغايرة وأدلة جديدة لم تكن مُدرجة في الملف خلال المحاكمة الأولى. وزعم الادّعاء بأن أسلحة حُجزت في مخابئ وشقق سرية تابعة لعبدالله. واعتُبر ذلك دليل إثبات على اشتراكه في العمليات الفدائية التي نفّذتها الألوية الثورية اللبنانية في فرنسا، عام 1982». وأضافت أن المحكمة أصدرت على عبدالله حكماً بالمؤبّد «رغم احتجاج هيئة الدفاع بأن الأدلة لم تكن مُدرجة في ملف القضية الأصلي وتمّت فبركتها لاحقاً، لإدانته بأثر رجعي، وفي ذلك خرق صارخ للأعراف القانونية».
وبعد عشر سنوات على إدانة عبدالله، كشف قائد الاستخبارات الفرنسية السابق إيف يونيه في مذكّراته «أننا «استطعنا أن نجمع معلومات كافية ضد عبدالله بعدما نجح قائد شعبة مكافحة الإرهاب، جان فرنسوا كلير، في استقطاب مخبر مقرّب جداً من الألوية الثورية اللبنانية». وفي تموز 2001، فجّر المحامي جان بول مازورييه، الذي كان عضواً في هيئة الدفاع عن عبدالله، قنبلة هزّت الوسط القضائي الفرنسي، إذ اعترف في مقابلة مع جريدة «ليبراسيون» بأنه هو المخبر الذي لمّح إليه بونيه. وروى كيف استقطبته الاستخبارات الفرنسية للتجسّس على موكله وإيهامه بأنه يقاسمه أفكاره الثورية حول القضية الفلسطينية، إلى أن وثق فيه عبدالله وصار يوفده للقاء رفاقه في «الألوية الثورية» في لبنان، ما سهّل على الاستخبارات الفرنسية اختراقها، وبالتالي تجميع أدلة إدانة ضد عبدالله. وهذا في حدّ ذاته حجة قضائية كافية لإبطال الحكم الصادر بحق المناضل اللبناني لأن القانون الفرنسي يحظر استعمال المحامين والأطباء والصحافيين للتجسّس على المتهمين وتجميع الأدلة ضدهم.
وفي عام 2012، اعترف بونيه بأن ما حدث كان «مؤامرة أمنية مخالفة للقانون»، وقال في مقابلة صحافية: «لقد تصرّفنا في هذه القضية فعلاً كمجرمين، وآن الأوان لوضع حدّ للظلم الكبير الذي ألحقناه بجورج عبدالله».