الخاسرون في الصراع على سوريا بعد الزلزال
الخاسرون في الصراع على سوريا بعد الزلزال
رياض معسعس
سقوط نظام بشار الأسد الفار إلى موسكو خلسة كان غير متوقع في حسابات كل القوى التي كانت عيونها منصبة على سوريا وتضعها ضمن مخططاتها الاستراتيجية كدولة متهالكة، كبقرة باتت قريبة من المسلخ، وكل قوة تسعى لسلخ قطعة منها. لكن هذه الحسابات كانت خاطئة، ولم تحسب حسابا لمفاجأة سقوط «نظام الأبد» بأسبوع واحد، يوم أحد. كان زلزالا شديد الاهتزاز على مقياس التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، وككل حدث يقلب الموازين، ويفرض واقعا مختلفا ورؤى جديدة له مؤيدوه، ومعارضوه، وهناك خاسرون، ورابحون. فعلى المستوى الداخلي فإن الكاسب الأول هو الشعب السوري الذي تخلص من كابوس نظام الأبد البائد، والخاسر هو كل من كان يدعم هذا النظام والمستفيد منه، وخاسر آخر يتمثل بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني المناوئ لتركيا، والمتواطئة مع النظام البائد، التي كانت تتطلع للانفصال عن سوريا، وإقامة دولة كردية في شمال شرق سوريا بعد أن استولت على مساحة واسعة من جغرافية سوريا تقدر بـ 25 بالمئة من الأراضي السورية، واستولت على منابع الطاقة فيها والسدود بدعم أمريكي، واليوم ترى أن أحلامها من الصعب تحقيقها في ظل الإدارة الجديدة المدعومة من تركيا التي أكدت أن في حال عدم تسليم» قسد» أسلحتها فإن الجيش التركي سيحفر قبورا لها في أماكن تواجدها، وكانت «قسد» قد خسرت مدينة منبج بعد معركة مع فصائل الجيش السوري الحر مؤخرا، وفي ظل هذا الواقع الجديد صرح القائد مظلوم عبدي أن قسد يمكن أن تنضم للجيش السوري الجديد ولكن بشروط، وهي في فترة انتظار لتسلم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الذي ينتظر منه أن يبت بتواجد 2000 جندي أمريكي في شمال شرق سوريا والتخلي عن دعم قوات حماية الشعب الكردية «قسد».
جاءت الثورة السورية التي انطلقت في العام 2011 لتعطي إيران الحليف القديم لنظام الأسد فرصة ذهبية للتدخل في سوريا بعد أن استنجد النظام البائد بها، وكان على وشك السقوط في العام 2013. واستغلت إيران هذه الفرصة لسد الثغرة الناقصة فيما سمي بـ«الهلال الشيعي» الممتد من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت لتصل إلى البحر المتوسط من جهة وتضمن طريقا سالكة لنقل الأسلحة والذخائر لحزب الله ضمن ما أسمته «محور المقاومة». وقد عملت ضمن خطة تشمل أربعة مجالات أساسية: إرسال ميليشيات مقاتلة لمواجهة قوى الثورة (منها من شيعة باكستان وأفغانستان والعراق،) والحرس الثوري الإيراني، وحزب الله اللبناني. التغلغل في أجهزة الأمن السورية، الاستثمارات العقارية وبناء قواعد عسكرية، إطلاق حملات تشيع في المدن والقرى السورية. وقد تجاوزت تكاليف تدخلها في سوريا 50 مليار دولار. وهذا ما دفع إسرائيل لتكثيف غاراتها على سوريا لضرب المواقع الإيرانية، ومواقع حزب الله، بوتيرة متسارعة جعلت النظام المخلوع المحسوب على محور المقاومة في حرج كبير لعدم حماية أجواء سوريا، والرد على الضربات الإسرائيلية الموجعة، خاصة بعد انطلاق عملية «طوفان الأقصى» وزج حزب الله في التصدي لإسرائيل الذي تلقى ضربات موجعة أجبرته على سحب قواته من سوريا، وتجميد نشاطه العسكري بعد دخوله في هدنة مع إسرائيل. لكن الضربة الأكثر إيلاما لنظام الملالي في طهران جاءت على غفلة بسقوط نظام الأسد لتفقد كل ما بنته في سوريا خلال عقد من الزمن، وأعلنت فورا على لسان المرشد الأعلى علي خامنئي خيبة أملها بقوله: ما حدث في سوريا هو نتيجة خطة مشتركة بين الولايات المتحدة والصهاينة، ولا شك في ذلك فنحن لدينا أدلة واضحة لا تقبل الجدل، وهناك دولة مجاورة لسوريا (ويقصد تركيا) لعبت دورا واضحا في هذا الأمر، وتواصل القيام به، وهذا أمر مرئي للجميع». الخسارة كانت فادحة على أكثر من مستوى: استراتيجي، عسكري، مالي، أمني. والتخوف اليوم من انحسار نفوذها في العراق، ولبنان، والأخطر من هذا وذاك هو ردود فعل الشارع الإيراني الذي ضاق ذرعا بخيبات الأمل في تحسن وضعه المعيشي المتدهور يوما بعد يوم بسبب التدخلات المكلفة للنظام خارج إيران والتي فشلت جميعها.
عملت تركيا بدعم المعارضة المسلحة بنفس طويل واختارت الوقت المناسب لتعطي الضوء الأخضر لكل قوات المعارضة بالانطلاق في اللحظة المناسبة لإسقاط نظام هدد أمنها القومي، ولتفسح المجال لها بإعادة كل اللاجئين السوريين إلى بلادهم
تعتبر روسيا نظام الأسد حليفا مضمونا فعلاقتها الوطيدة امتدت لأكثر من نصف قرن، خاصة وأن حافظ الأسد قد حقق حلم القياصرة القديم بالوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط بعد أن وافق على بناء قاعدة بحرية لها في مدينة طرطوس والتي تم بناؤها في عهد الاتحاد السوفييتي في العام 1972. بعد انطلاق الثورة السورية وترنح النظام تحت ضربات المعارضة لم ينقذه الاستنجاد بإيران التي لم تقو على صد هجمات الثوار وبات النظام على وشك السقوط في العام 2015. فلم يجد بدا من الاستنجاد بالحليف الثاني روسيا خاصة وأن النظام أصبح تحت مراقبة دولية بعد استخدامه للأسلحة الكيماوية لضرب الشعب السوري المنتفض، فقامت روسيا بدعم النظام عسكريا، ودبلوماسيا ضمن شروط أملتها عليه: بناء قاعدة حميميم العسكرية، توسيع قاعدة طرطوس البحرية، استغلال الموارد السورية وخاصة الفوسفات، بعد موافقة النظام على الشروط قامت موسكو بالدفاع عنه دبلوماسيا عبر استخدامها حق الفيتو 17 مرة لإنقاذه من العقوبات، وعملت على إنشاء منصة آستانا وسوتشي ضمت الدول الضامنة (روسيا، إيران، تركيا) وشرعت بتطبيق مسار «مناطق خفض التصعيد» بالتفاوض مع فصائل المعارضة لسحب قواتها من مناطق سيطرتها والتوجه إلى محافظ إدلب المحررة. أما في الجانب العسكري قامت تشكيل الفيلق الخامس لدعم عمليات النظام العسكرية، إرسال قوات فاغنر الروسية، والطائرات المقاتلة إلى قاعدة حميميم التي شاركت بقصف المدن والقرى التي تتواجد فيها قوى المعارضة، وجعلت من سوريا حقل تجارب لكل أسلحتها. وعلى غرار إيران فشلت روسيا على جميع المستويات في إنقاذ هذا النظام وبات عبئا ثقيلا عليها خاصة بعد دخولها في غزو أوكرانيا ففضلت التخلي عنه وشرعت بنقل معداتها العسكرية من سوريا إلى ليبيا بعد أن خسرت حليفها المضمون ولم يتبق لها سوى إنقاذ بشار الأسد، واستقبال عائلته وبعض من بطانته في اللحظة الأخيرة وبالطبع كل الاستثمارات المالية الضخمة التي رافقتهم.
بالطبع هناك خاسرون من الأنظمة العربية التي تخشى الثورة السورية وعملت جاهدة سابقا لضرب كل ثورات الربيع العربي بثورات مضادة، وبقاء الأسد بالنسبة لها كان صمام أمان للقضاء على الثورة وعدم امتدادها، فعملت بكل الوسائل لتعويمه بدءا من إقناع واشنطن التي غضت الطرف عن عمليات تطبيع الأنظمة واحدا تلو الآخر، وعودته إلى الجامعة العربية واستقباله في مؤتمرها، والمؤتمرات الأخرى، وكانت تسعى لإقناع الإدارة الأمريكية لإلغاء العقوبات عنه مقابل التخلي عن إيران. لكن مفاجأة سقوطه أسقطت كل حسابات هذه الأنظمة التي تحاول اليوم مد الجسور مع الإدارة الجديدة ولكنها تتوجس اليوم كما تتوجس إيران من الهزات الارتدادية للزلزال السوري.
عملت تركيا ضمن استراتيجية ثابتة وبنفس طويل تتمثل بدعم المعارضة السورية المسلحة بكل أطيافها (فصائل الجيش السوري الحر، والفصائل الإسلامية التي تترأسها هيئة تحرير الشام) وهدفها الأساسي القضاء على قوات سوريا الديمقراطية «قسد» والحؤول دون إنشاء أي كيان كردي منفصل في سوريا، ومن جهة أخرى حاولت وبدفع من موسكو الدخول في مفاوضات مع النظام البائد بهدف التطبيع معه بشرط العمل معا ضد « قسد» لكن بشار الأسد رفض أي لقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مما أغضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان وسيطا. وعلى مدار أكثر من عقد عملت تركيا بدعم المعارضة المسلحة بنفس طويل واختارت الوقت المناسب لتعطي الضوء الأخضر لكل قوات المعارضة بالانطلاق في اللحظة المناسبة لإسقاط نظام هدد أمنها القومي، ولتفسح المجال لها بإعادة كل اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وبالطبع الحفاظ على نفوذ لها في سوريا كبعد استراتيجي خلفي، والاستفادة من إعادة الإعمار، وقلب الطاولة على الجميع.
كاتب سوري