ثقافة وفنون

زغرودة العودة ووحشة الفقدان

زغرودة العودة ووحشة الفقدان

باسل عبد العال

نصحو على عودةٍ، وعلى الرايات في الهواء، اليوم، منذُ اليوم، سنكتبُ تاريخاً آخر، لهذا النشيد الآخر، ونخرجُ من مفترق الحرب إلى حربٍ من نوعٍ آخر، لن نترك خلفنا الطرقات التي عبرناها، مثلما لم نتركها من قبل، بالأمس ليلاً صحوتُ على النداء الأخير في صوت الطائرات، وسألت: هل هو النداء الأخير حقّاً، أو الموت الأخير، والذبح الأخير، في صورة البطل الأخير..
قالت لي شقيقتي في الطريق إلى المدينة: لماذا يقتلونا فيما تبقى لنا من وقت؟ قلتُ لها: العدوُّ يطلق عبارته الشهيرة في حضرة نومنا: «يا رايح كثّر المذابح»، «خُذْ من لحمنا ما شئت لكن أعطنا البطولة كلّها، وأعطنا مرايانا وصورةُ عرسنا المقبل من شرفةٍ في الجنوب، وهي تطلُّ على عكّا والجليل وإصبعهِ وملامحه الشامخة من بعيد، هذا اليوم، منذُ اليوم، يصيبنا الشعور الجريح على مَن فقدنا، فقدنا، أجمل ما فينا، وقدّمنا القرابين كي نصل إلى هذا اليوم، كأنّنا ننتصر مرتين، لكنّنا فقدنا جوهرنا «النضال» و»العبد والعماد» والكثير ممّا فقدنا، هم كالزنابق في طريق هذا اليوم، هيَ رحلةُ الحلم الأولى، أوّل البراعم، حبة القمح في حقلٍ فسيحٍ، فهل نقولُ للبنان: شكراً؟ أم نقولُ: للبنان: أنت البدايةُ في شكل هذا الفجر؟ أم نقولُ للبنان: أنت البدايةُ في ملح هذا الضوء؟ نقولُ: ونبكي، كأنّنا نقولُ شيئاً بالدموع، فالدموع تكتبُ وحدها، وتقولُ: نشيدها الحسيِّ في حضرة لبنان، من الشمال إلى الجنوب، ونمضي في الطريق الذي سوف يطولُ ويطولُ، لكنّهُ سيصل إلى منتهاه، من عشق الشمس للأرض، كل خطوةٍ نحوها، هي على درب الخطوات المقبلة التي سوف نلمس فيها التراب، سوف نشتهيه أكثر، ونعانقهُ أكثر، ونفتح له الذراع والذراع أكثر، فماذا نقولُ للطريق التي أوصلتنا إلى هنا؟ هل نجلس عليها ونقبّلها؟ أم ننامُ عليها بدفءِ الجسد؟
وسيطولُ الطريق إلى أن نبلغ السماء هناك، وشيءٌ ما تغيّرَ في مفهومنا للطريق المعطّر بدماء الشهداء والتضحيات العظيمة، تغيّرَ مسار تفكيرنا في الطريق ولهذا الطريق، صرنا نفكّرُ أكثر، حين جربنا رحلة الحرب، بأنّ الإيمان بفكرة المهمة النبيلة، هو الإيمان الحقيقي للوصول إلى غايتها، وغاية اللحظة المنتظرة، لقد علّمتنا التجربة دروساً عديدة في المقاومة، وعلّمتنا التجربة دروساً في الجغرافيا والتاريخ والثأر، ودروساً أخرى في العطاء والوفاء والعناق، ودروساً أخرى في انتظار الذي سوف يأتي بعد الذي أتى، ولا نملُّ من الانتظار الطويل، ولا يملُّ الانتظار منّا، لأنّنا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من شارة النصر الأكيدة، هناك في ساحة المعركة، وهنا في ساعة الفرح النسبيّ، الفرح الناقص الذي لم يكتمل بعد، في هذا القمر الناقص الذي ننتظر اكتمالهُ بفارغ الصبر والدم والشهداء، كي يضيءَ القمر على نواحي الروح، في اتجاه فلسطين القريبة من الخيام والشقيف والناقورة ومزارع شبعا، وبنت جبيل، وصور وصيدا، مروراً ببيروت وصولاً إلى حيث زرعنا شهيداً وحصدنا شهيدا، فأقترح أن نسمّي الطرقات بأسماء الزهور الجديدة، كي تفوح روائح الجنّة، من عليائها إلى الأرض التي وعدت الشهداء بالصعود إليها، للصعود معانٍ عديدة في قاموس المقاومة، الصعود يعني أنّنا نحملُ فكرتنا ونمضي أماماً، ونقفزُ من أرضٍ قريبة إلى أرضِ أقرب كي نلمسَ سقف الحقيقة، نتذكّرُ من نحنُ؟ وننسى الوجع الأخير، وننسى رائحة الجرح في المكان، ونتذكّرُ وخز الشوك في القلب، وفي مخيّلتنا، ومَن فقدنا، في هذا الصمت القليل، والهدنة الناضجة مثل تفّاحةٍ في يد المقاوم الأوّل، فهل حقّاً انتصرنا؟ ربّما هي زغرودة العودة ووحشة الفقدان، انتصرنا لأنّنا ما زلنا على قيد الحياة، لكنّنا نختنق من رائحة البارود ملء المكان المظلّل بالدخان وبالصراخ، فليس من الضروري أن يكون النصر برفع شارة النصر، وليس من الضروري أن يكون الفرح في قلب المنتصر، المنتصر الوحيد هو الشهيد حتى لو كان حضوره أقل وغيابه أكثر، لأنّ النصر جعل حضوره أكثر حضوراً وغيابه غائباً، في انتهاء الحرب ووقف إطلاق النار، واشتعال الشموع في الظلام، وترميم الذاكرة بذاكرةٍ جديدة، ولم نجد ما نرمّمهُ بعد، من أوج ما انكسر فينا، وما خلفتهُ الطائرات من حفرٍ في الروح، وعادت إلى وكرها سالمة، وعدنا إلى وحشة الفقدان فائضين بكرم الشهداء.

باسل عبد العال

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب