مقالات

القوة بين السلطة والفكر  بقلم الدكتور وليد عبد الحي

بقلم الدكتور وليد عبد الحي

القوة بين السلطة والفكر
 بقلم الدكتور وليد عبد الحي
قبل أكثر من عشر سنوات، كنت أعد بحثا مع المرحوم الدكتور محمد يونس أستاذ الرياضيات في جامعة اليرموك عن العلاقة التبادلية بين مناهج العلوم الطبيعية ومناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتوقفنا عند عالم الفلك الإسلامي ابن الشاطر، الذي وضع نظرية تشير إلى كروية الأرض والدوران لكنه لم يقل ذلك بصراحة، وعندما رأينا ما كتبه ورسمه كوبرنيكوس الذي جاء بعد ابن الشاطر بحوالي قرن، تبين أنه أخذ منه نفس المعلومات بل ونفس الرسوم، وسألت المرحوم يونس لماذا في رأيك لم يقل ابن الشاطر ما قاله كوبرنيكوس ، قال ببساطة “خاف من السلطة”.
إن أسطورة الإغريق التي تحكي عن بروميثيوس الذي حكم عليه الإله زيوس بربطه بصخرة لتأكل الطير كبده المتجددة كل يوم ، عقابا على سرقته النار(رمز المعرفه) من الآلهة، تشير إلى هاجس الخوف المتبادل بين السلطة والفكر, وإذا كان للقوة أشكالها العديدة التي يستند لها البشر لتحقيق مآربهم، فهناك القوة العضلية وقوة الثروة وقوة الجاه وقوة الجمال بل وقوة الضعف، فإن أبرز أشكال القوة تظهر في قوة السلطة وقوة الفكر…واعتقد جازما أن ألفكر هو أقوى القوى، لذلك شكل الصراع بين هاتين القوتين(الفكر والسلطة) أبرز وأخطر أنماط المواجهة في التاريخ.
ومشكلة السلطة أنها ترى لمدى قصير(مصلحتها)،كما أن أغلب من يتولاها هم “أهل الغلبة والدهاء” كما يقول بن خلدون، بينما يتولى العلم والفكر أناس متحررون من المساحة الزمنية ويؤرقهم عقل لا يعرف الهدوء…ومن هنا بدأت المواجهة في التاريخ بين القوتين، لكنها مواجهة مؤلمة ومحزنة…وإليكم نماذجها:
في الحضارة المسيحية:
ربما تكون محاكم التفتيش هي النموذج على القهر الفكري في التاريخ الأوروبي، دون أن ننفي أن القهر سابق على هذه المحاكم( فقد شرب سقراط السم في السجن في القرن الخامس قبل الميلاد)، فقد أصدرت محاكم التفتيش أحكاما بإعدام أكثر من اثنين وثلاثين ألفاً ممن اشتغلوا بالفكر أو البحث, والغريب في الأمر هو العقل السادي في القتل، فعالم الطبيعة المشهور (برونو) حكموا عليه بالقتل بشرط أن لا تراق قطرة من دمه, وقاموا بتجريده من كل ملابسه حتى أصبح عاريا، وربطوا لسانه ووضعوا قيودا حديدية ثقيلة للغاية في يديه وقدميه، ثم أخذوه لميدان وسط روما وحرقوه حيا بينما الجمهور يصفق ويقول “الموت للكفار”.
وهذه الكنيسة التي أرهقنا دهاقنتها بالحديث عن الخد الأيسر والأيمن هي ذاتها التي أعدت فيها قوائم الإعدام، فكانت إحداها المعروفة بقائمة بواغتي تشتمل على 516 إسما حكم عليهم بالإعدام بعضهم يعدم بالفأس والبعض الأخر بالمشنقة.
ومن غرائب هذه الأحكام ما صدر بحكم العالم دي رومنيس الذي قال بأن قوس قزح ليس سلاحا بيد الله(قوس حربي) لينتقم به من عباده، بل هو إنعكاس لضوء الشمس في قطرات الماء السابحة في الفضاء، فكان جزاؤه أن أحرقوا كتبه وبقي في سجنه حتى مات. والأغرب من كل هذا قصة العالم ويكليف، إذ كانت الكنيسة تؤمن بأن العالم خلق قبل 4004 سنوات من ميلاد المسيح، وعندما قيل لهم أن العالم ويكليف (وكان ميتا) قال أن العالم خلق قبل ذلك ، أخرجوا رفاته من القبر وطحنوه. أما عالم الكيمياء الشهير لافوازييه الذي وضع قانون حفظ المادة اعدموه بعد الثورة الفرنسية، وقال أحد قضاته “الثورة ليست بحاجة لعباقرة”، وجاليليو فقصته مشهورة، فقد تراجع عن نظريته في البداية خوفا من الحرق وكان عمره 78 سنة ، وعندما قال القاضي له ويل للوطن الذي لا ينجب أبطالا ، رد جاليليو بحزن شديد بل ويل للوطن الذي يحتاج لأبطال؟ وكأنه يسبق العالم هربرت سبنسر الذي قال” لا يتم التحول الحضاري على يد الأبطال بل على يد حكمة جماعية يدشنها المفكرون”، وتطول القائمة فنجد فرانكو يقتل الشاعر العظيم لوركا، والفاشيون الإيطاليون يعدمون الفيلسوف غرامشي… أما المكارثية في الولايات المتحدة في الخمسينات من القرن الماضي فقد شلت الحياة الفكرية وبلغ عدد الدبلوماسيين الذين جرى التحقيق معهم ثلاثة آلاف دبلوماسي،بل إن جيمس مكارثي رفع قائمة واحدة فيها 205 من شخصيات المجتمع الأمريكي يريد التضييق عليهم.
أما في حضارتنا الإسلامية التي ساهمت بقسط وافر من التقدم العلمي، فلم يكن حال العلاقة بين السلطة والمفكرين أحسن حالا، ولعل محنة الأئمة الكبار في الفقه الإسلامي شاهد على ذلك، فأبو حنيفة النعمان عذبه الأمويون حتى تورم رأسه من الضرب لأنه أيد ثورة محمد النفس الزكية، وسجنه العباسيون وعذبوه ثم أخرجوه من السجن بعد أن دسوا له السم فمات متأثرا بكل هذا. أما الإمام ابن حنبل فقد عانى من سجون المعتصم- في قضية خلق القرآن- وربطوه بأغلال حديدية وداسوا على رأسه بنعالهم وضربوه حتى سال الدم من جسده على ارض السجن الذي بقي فيه عامين ونصف، بينما الشافعي وبسبب مواقفه من مذهب الإمام مالك وارتباطه بمواقف الليث بن سعد جندوا له من يطارده بقيادة رجل أحد فقهاء السلطة يسمى فتيان، فقد دخلوا المسجد عليه بعد أن خرج المصلون وانهالوا عليه بالعصي ضربا حتى أدموه وأغمي عليه ومرض على إثرها ومات. ولعل أهونهم مصيبة هو الإمام مالك،رغم أنهم في فترة المنصور ضربوه حتى خلع كتفه. لكن كل هؤلاء الطغاة ذهبوا وما زال أكثر من مليار من البشر يحتكموا في قضاياهم لفقه هؤلاء الأربعة..بقي الفكر وانهزمت السلطة.
فإذا أضفنا للفقهاء محنة الأخرين،فلن ننتهي، فسعيد بن جبير ذبحه الحجاج بالسيف، وقطع رجال المنصور طبقا لأوامره أطراف بن المقفع عضوا عضوا ورموها في النار، والكندي جردوه من ملابسه وجلدوه وهو عار ستين جلدة، وبقي رجال الملك الساماني يضربون الرازي على رأسه بمجلداته العلمية حتى نزل الماء على عينيه وفقد البصر، ولم ينج فلاسفة الصوفية من كل هذا، فقد اعدموا الحلاج (الحسن بن المنصور) بطريقة ترتعد لها الفرائص، وحكم صلاح الدين الأيوبي على السهروردي وأعدمه..
وفي التراث الشيوعي لم يكن الحال أفضل، ففي الاتحاد السوفييتي كان هناك مفكر عظيم هو نيكولاي كوندراتيف، وضع نظرية تسمى نظرية دورة الموجة الطويلة، فاعدمه ستالين بسبب هذه النظرية لانها تتضمن ترجيحا بانهيار الاتحاد السوفييتي..وعندما انهار الاتحاد السوفييتي عادت أغلب جامعات العالم لنظرية كوندراتيف …سقطت السلطة وبقي الفكر..
وعندما قيل لستالين أن البابا ينتقدك..قال كم دبابة يمتلك البابا، ..دعوه يهذي..وسقطت دولة ستالين وما زال البابا يؤثر في وجدان الملايين.
وفي الصين،أعدم وهرب المئات من علمائها في فترة الثورة الثقافية في أوساط الستينات من القرن الماضي،ومن غرائب “دعاة النظرية العلمية” أنهم طردوا الأديبة الصينية «ونينغ لينغ» الحائزة على جائزة ستالين عام 1953م عن إحدى رواياتها، وحكموا عليها بالعمل خادمة لتنظيف السلالم في مبنى اتحاد الكتاب في بكين
خلاصة القول..سيبقى الفكر يلح على العقول ولن يهدأ..أما الطغاة فلن يكونوا أكثر من مادة للتلهي بقصص غبائهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب