مقالات

هل انتهى الانقسام اللبناني حول «المسألة السوريّة»؟

هل انتهى الانقسام اللبناني حول «المسألة السوريّة»؟

وسام سعادة

انقسم اللبنانيّون حول الموقف من انتداب النظام السوريّ الأسديّ على دولتهم واحتلال جيشه لبلدهم. ذلك قبل سنوات عديدة من انفجار صاعق المجتمع السوري نفسه بين منتفضين ومترددين وقاعدين ومناصرين للنظام. ثم حصل التضاد في موقف اللبنانيين من الثورة والحرب في سوريا.
تخاصموا بضراوة أكثر مع إيثار «حزب الله» القتال إلى جانب النظام الدموي ذي الصبغة الفئوية والرطانة القومجية. توسعت الحرب من المقلب السوري إلى الجانب اللبناني من سلسلة جبال لبنان الشرقية. ثم مضت الحال لغير صالح الفصائل الإسلامية السنية، نظراً لتضافر التدخلين الروسي والإيراني، أضف لتداعيات الحرب الأمريكية الإيرانية المشتركة عملياً على «تنظيم الدولة» وحرب التنظيم على الفصائل الأقل تشدّداً منه.
حُسمت حرب السلسلة الجبلية الشرقية، كما في الأماكن الأخرى من سوريا بسياسة «الباصات الخضر» التي ظهر عملياً أنها سمحت بتحشيد أكبر نسبة كان من الممكن تخيل اجتماعها في بقعة واحدة من المسلحين المتمردين على نظام آل الأسد، في ريفي إدلب وحلب، وهي بقعة توازي مساحة لبنان، وساهم هذا التجميع لاحقاً في إسقاط النظام الأسدي في بضعة أيام.
لم يدفع هذا التحشيد بهذه الفصائل الى تصادم دموي لا يبقي ولا يذرّ في إدلب، بل إلى انبثاق «هيئة تحرير الشام» الجامعة بين الفصائل، تتقدّمها «جبهة النصرة» بعد أن فكّت الأخيرة عرى ارتباطها مع تنظيم القاعدة، بالتفاهم مع أيمن الظواهري عام 2016.
والحال أن تنظيم القاعدة ككل لم يعد هو نفسه، خاصة بعد انشقاق تنظيم الدولة عنه، ودخول الأخير في تجربة إحياء الخلافة والسيطرة على مساحة ترابية واسعة النطاق تمتد من الموصل 2014 ـ 2016 حتى تدمر، وبعد التدخل الفرنسي 2013 ـ 2014 لإنهاء توسع «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» في منطقة الساحل والصحراء الكبرى، وصولا إلى انسحاب أمريكا من أفغانستان وتركها لحركة طالبان، التي استمرت مع ذلك تأوي زعيم القاعدة أيمن الظواهري، إلى حين مقتله أواخر يوليو 2022 بمسيّرة أمريكية بعد عام على هذا الانسحاب. ويرجّح أن يكون خليفة الظواهري غير المعلن، المصري سيف العدل، مختبئاً هو الآخر في أفغانستان. لكن معنى استمرار تنظيم القاعدة كحالة عابرة للحدود بات يلفه الغموض اليوم، حيث باتت السمة المحلية لفروعه الحيوية، كما في اليمن ومالي والنيجر، أن كل فصيل يتدبّر أمره بنفسه، مع ميل متفاوت بين حالة إلى أخرى إلى تراجع خطاب «الجهاد العالمي» لدى هذه الفروع، وزيادة التركيز على أدبيات وديناميات «تحكيم الشريعة».
في المقابل، نجحت عملية تفكيك السيطرة الترابية لتنظيم الدولة أو داعش على مدن العراق وسوريا ومن ثم اغتيال أبو بكر البغدادي، من دون أن يعني ذلك اندثار داعش نفسها، بل عادت تتطور في الاتجاه المعاكس لفروع القاعدة أو الفصائل المتحدرة منها. أي يزيد تركيز خلاياها على خطاب «الجهاد العالمي» في مقابل اندثار «النموذج التطبيقي ـ الترابي» لدولة الخلافة وتحكيم الشريعة بالشكل القروسطي الذي فهمته داعش وطبقته.
ومع أنه، قلما اصطدم «حزب الله» مع «داعش» في سوريا، بل دارت معاركه في غالب الوقت مع فصائل إسلامية جهادية تقاتلها داعش بل تكفرها، إلا أنه عمد في تلك المرحلة إلى «دعشنة» كل الفصائل، بل كل الثورة. هذا في مقابل ظهور حساسية سلبية لدى بيئات ومناخات محسوبة على النظام الأسدي نفسه من الأدلجة الدينية المصاحبة لانتشار الميليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية في سوريا.

لم يترك بشار الأسد في انهياره الهزلي الأخير فرصة جديدة للبنانيين كي ينقسموا مجدداً، بشكل عميق، حول المسألة السورية

تجميع كل مسلحي الفصائل السنية في الشمال الغربي من سوريا أدى لاحقاً، إلى نجاح نسبي لتجربة الإدارة الذاتية لهذه المناطق، في مقابل التحلل الإداري المريع للنظام الأسدي، الذي لم تفده عودته إلى «الحضن العربي الرسمي» لا في تخفيف العقوبات الاقتصادية عليه، ولا في الإقلاع بعملية إعادة الإعمار، بل أفادته فقط في الاسترسال بالصلف ضد كل مسعى للتسوية السياسية، الأمر الذي أخذه رأساً الى المزبلة.
والنتيجة أنه، وبعد أن استفحل الوهن بالبنية العسكرية الإيرانية والإيرا-لبنانية في سوريا، بخاصة في أعقاب الحرب الأخيرة، كان الزحف السريع لقوات المعارضة الإسلامية السنية على حلب. وكرت السبحة سريعاً، فطويت صفحة خلافة بشار الأسد لأبيه. فتح السبيل للتداول على التغلّب.
الأب كان طاغية مستبداً. لكنه نجح بتسويق سرديتين. واحدة في سوريا، وهي أنه خلّصها من تخبّط رفاقه في حزب البعث قبل الحركة «التصحيحية». وثانية حيال لبنان، وهي أنه أخرجه من الحرب الأهلية التي كان نظامه في طليعة رعاتها.
السرديتان تلفيقيتان إلى أبعد حد إلا أن القيمة التسويقية أو التداولية لهما لم تكن معدومة.
في المقابل بشار الأسد نموذج على طاغية فشل في أن يكون مستبداً. تحول طغيانه إلى عملية تدمير متواصلة للمجتمع والبلد كما للدولة إلى أن شمل التدمير الجيش السوري نفسه، منذ اليوم الذي زج فيه هذا الجيش ضد جموع المتظاهرين، وحتى اليوم الذي ترك فيه هذا الجيش تتحلل ألويته، وتدمّر قطاعاته تحت مرمى النيران الإسرائيلية. زد على ذلك كان طاغية غير قادر على تسويق أي سردية. كان يعكّز على سردية الإيرانيين. تكفل فقط بفضح سرديتي الأب، إن في سوريا أو في لبنان، وإتلاف أي عنصر قابل للتداول بهما، أو لتسويقهما، في الشرق والغرب.
لم يترك بشار الأسد في انهياره الهزلي الأخير فرصة جديدة للبنانيين كي ينقسموا مجدداً، بشكل عميق، حول المسألة السورية. لم يفرحوا بذات القدر، بطبيعة الحال، ولا هم يتوجسون من العواقب والتداعيات بالدرجة نفسها.
مع ذلك، ثمة مجال للاستشعار المتبادل بين اللبنانيين والسوريين بأن المرحلة لا يمكن أن تكتفي بالخطابية والغنائية. ما بين وضع لبنان الخارج من الحرب التدميرية، بوقف إطلاق نار هش، ومؤقت، بل ومن جانب واحد إلى حد كبير، وما بين وضع سوريا وقد كنست نظام آل الأسد، ولم تتبلور فيها بشكل واضح كفاية قواعد اللعبة الداخلية من الآن فصاعداً بعد، ولا قواعد التصرف العربي الرسمي والغربي معها على المستوى الزمني الأطول، هذا في مقابل اتسام الوضع الداخلي، باللاتوازن الكبير لصالح الإسلاميين، وبروز قطب يتمتع بمواصفات كاريزمية في شخص أحمد الشرع، وهو يدرك أن بناء شبكة تفاهمات إقليمية ودولية لا تقل أهمية عن تأمين السبل الداخلية لنجاحه. في غضون ذلك، لا تزال إسرائيل، وعلاوة على توسعة نطاق احتلالها في الجنوب السوري، تستهدف بغاراتها منشآت في العمق السوري.
توفر التطورات كما الالتباسات السورية الراهنة أرضية لفتح كوة في جدار العنجهيات اللبنانية الداخلية المتبادلة. أقل الإيمان في لبنان اليوم الاعتراف أن التحوط والتحسب من تداعيات التحول في سوريا لا يرد وكاتالوغ التفاعل معه مرفق به. وفي الوقت نفسه، لا مصلحة لأحد في لبنان اليوم في الانفعالية والسلبية حيال سوريا. ثمة في المقابل عناصر يمكن تقديرها في الاتجاه المعاكس، تخاطر بتأجيج التناقضات الداخلية والأهلية اللبنانية على محك الوضع في سوريا. وهذه يمكن التحكم بها بشكل أفضل كلما انخفض منسوب المكابرة في الداخل اللبناني على حقيقة الوضع الكارثية بعد الحرب الأخيرة، وعلى خطورة الاستمرار في حال الفراغ الرئاسي وتعطل المؤسسات الدستورية. هذا في مقابل أهمية عدم الاسترسال في أوهام «تطبيق» الوضع السوري الحالي على لبنان. في سوريا ثمة غالب ومغلوب اليوم. في لبنان، ثمة أفق لتفكيك تغلبية معينة، إنما فقط إذا انوجد الاستعداد للبحث عن صيغة لتسيير شؤون المجتمع التعددي والدولة المفترض أن تعكس هذا المجتمع وأن تساعد على انتظام حاله، بشكل لا حاجة فيه إلى البحث عن استبدال تغلبية إثنو-دينية بأخرى.
عناوين الانقسام اللبناني الداخلي عديدة. وطرائف نفي «داخلية الانقسام» عديدة بحجة ارتباط القوى المختلفة بالخارج، بشكل يجد كماله في الارتباط الإيديولوجي العضوي الكامل لحزب الله بالحرس الثوري الإيراني. هذه الارتباطات، لا تلغي أهلية الخلاف. عمقه الإثني، الطائفي، المجتمعي، القيمي. في الوقت نفسه، ثمة عنوان للخلاف اللبناني، وللارتباط اللبناني بالخارج، غير تفصيلي، يتراجع: هو الانقسام حول المسألة السورية. مع ذلك، يبرز «الخوف من أن يتكرر ما حدث في سوريا في لبنان» كما الشوق إلى تكرار الأمر نفسه: التداول على التغلب. هذا الخوف، كما هذا الشوق، سببان منطقيان للقلق على كيانية لبنان نفسها.

كاتب من لبنان

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب