
الكاريكاتير
بقلم الدكتور يوسف مكي
ارتبط مفهوم الكاريكاتير بالرسوم الهزلية والساخرة، ويرجح أن الكلمة وافدة من اللغة الإيطالية، واستخدامها يعود للقرن السابع عشر. وقد استخدم هذا النوع من الفنون، في نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة، ويوضح المؤرخون للتاريخ الأوروبي، أن هذا النوع من الرسوم، استثمر في الصراع الذي دار، خلال الثورة الدينية، التي عرفت بحركة الإصلاح، والحرب التي دارت رحاها بين الكاثوليك والبروتستانتيين.
حجر الزاوية، في هذا النوع من الفنون، هو المبالغة، في إظهار الشكل. والمقصود بذلك، في الغالب ليس القدح، بل إجلاء الحقيقة، بصورة أوضح، وبشكل خاص في النقد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، للأوضاع السائدة.
من بين الأكثر شهرة لرسامي الكاريكاتير العرب، صلاح جاهين وناجي العلي وعماد حجاج وسعد حاجو ومصطفى حسين، وآخرون يستعصي حصرهم في هذه العجالة. وكان الجامع المشترك، بين هؤلاء هو نقد الأوضاع المزرية، بالمجتمع العربي.
بالوطن العربي، تراجع دور الرسوم الكاريكاتورية، التي كانت ظاهرة عامة في الصحف، بمصر وسوريا. وكان ذلك التراجع ثمرة تقلص هامش الحريات السياسية. وقد انعكس ذلك، سلبيا، على الدخل الذي يتقاضاه رسامو هذا النوع من الفنون.
ما يهمنا في هذا الحديث، هو اسقاطات هذا النوع من الفنون، على الأنواع الأخرى، من الخطابات الأدبية والفكرية والسياسية، بحيث دخلت هذه المفردة في القاموس العربي، تعبيرا عن أحداث معينة، ارتبطت بالغالب بالمتغيرات الدرامية. فنقول على سبيل المثال، في مشهد كاريكاتوري، بمعنى استحالة اقترابه من الواقع، رغم حدوثه. ويرتبط ذلك كثيرا، في وصف الفوضى السائدة، بواقعنا العربي، منذ تعثر مشروع النهضة. بمعنى أننا نادرا ما نستخدم هذا التوصيف بشكل إيجابي.
لكننا هنا في هذا الحديث نستخدمه، بطريقة مختلفة، لوصف تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، حول مشاركة بلاده، في بناء قناة السويس. وترامب، يبني على ادعائه، مطلب حق مرور السفن مجانا بتلك القناة.
والرئيس ترامب هنا أمام معضلتين، أحلاهما مر، أولهما جهله الكامل بتاريخ، نشأة هذه القناة، وما قدمته مصر، من تضحيات جسام، وأعداد كبيرة من الشهداء، ليس فقط أثناء حفرها، بل للحفاظ على استقلالها، واستمرار صيانتها، كأحد الممرات المائية الدولية، التي تربط القارات القديمة الثلاث مع بعضها، آسيا وأفريقيا وأوروبا. أما الأخرى، فهي تجاهله، بما يضفي جبروت غطرسة القوة، على شخصيته، في وقت يتراجع فيه الدور الإمبراطوري للولايات المتحدة.
بدأت فكرة إنشاء القناة، عام 1798، أثناء الحملة الفرنسية على مصر قبل ثلاثة عقود على استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، عن بريطانيا. لكنها لم تكلل بالنجاح. وفي عام 1854، استطاع الدبلوماسي الفرنسي، فرديناند ديو ليسيبس اقناع محمد سعيد باشا بالمشروع، وحصل على موافقة الباب العالي، فقام بمنح الشركة الفرنسية، التي يرأسها، امتياز حفر القناة، وتشغيلها لمدة 99 عام.
استغرق بناء القناة، عشر سنوات، 1859- 1868، وساهم في عملية الحفر، ما يقرب مليون عامل مصري، توفي منهم أثناء الحفر أكثر من 120 ألف عامل، نتيجة الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة. وتم افتتاح القناة، في العام الذي اكمل فيه تأسيسها، في عهد الخديوي اسماعيل، في حفل اسطوري مهيب، وبميزانية ضخمة.
في تموز/ يوليو عام 1956، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، شركة مصرية مساهمة، في أول تحد مباشر للاستعمار الغربي التقليدي. اعتبر قرار التأميم السبب المباشر، للعدوان الثلاثي على مصر، الذي قادته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. لكن المؤرخين يذكرون، أسبابا أخرى لشراكة فرنسا وإسرائيل في ذلك العدوان، من بينها دعم الحكومة المصرية، لثوار الجزائر، الذي كانوا يناضلون من أجل تحرير بلدهم، وأيضا، عمليات المقاومة المصرية، تجاه الاحتلال الإسرائيلي.
لقد جاء تأميم القناة، بالنسبة للنظام الثوري الجديد في مصر، ليحقق جملة من الأهداف، لعل الأبرز بينها، تأكيد استقلالية القرار المصري، وتوفير المبالغ المطلوبة لبناء السد العالي، الذي اعتبر ضرورة قصوى، لمنع فيضان النيل، ولتخزين المياه، وتوفير الطافة الكهربائية. وتزامن ذلك، مع برامج تنموية ضخمة، شملت تشييد مصانع الحديد والصلب، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، من الاحتياجات الاستهلاكية. كما تزامن مع سياسة كسر احتكار السلاح، والتوجه نحو الشرق.
ولاشك أن المقاومة الباسلة للمصريين، في بور سعيد، والموقف التضامني العربي الشامل مع مصر، والمتغيرات الكبرى في السياسة الدولية، والانذار السوفييتي، كان لها جميعا الأثر الكبير، في وقف العدوان، وهزيمة المعتدين، وخروج رئيس الوزراء البريطاني، انطوني إيدن، ورئيس الجمهورية الفرنسية، غي موليه، للأبد عن المشهد السياسي، بعد تقديم استقالاتهم.
لم يتضرر سلاح الجو المصري، فقد تم توجيهه، إلى القواعد العسكرية بالمملكة العربية السعودية، وظل في مأمن حتى انقشاع العدوان. وقد أسس تضامن العرب، أثناء العدوان الثلاثي، لعلاقة استراتيجية متينة، ضمت مصر والسعودية وسوريا واليمن، مؤكدة أن قوة العرب في وحدتهم.
وبالمثل تضامن العمال العرب مع مصر الشقيقة، وحين رفض عمال ميناء نيويورك تفريغ الباخرة المصرية كيلوبترا، رفض عمال عدن، تقديم أي خدمة للبواخر الأمريكية.
بعد هذا التفصيل، هل بقي مجال للشك في توصيف ادعاء ترامب، بمساعدة بلاده في حفر قناة السويس، ومطالبة حكومة مصر، بعبور بواخر بلاده القناة مجانا، بغير الكاريكاتورية؟!، التي اتسمت بها معظم سياساته، منذ تربعه مؤخرا بالبيت الأبيض؟!.