فيلجانس فرنيل الذي قد لا نعرفه
إبراهيم عبد المجيد
هذا كتاب رائع عن المستشرق الفرنسي فيلجانس فرنيل. كاتبه هو الباحث والكاتب عبد الله بن علي الخطيب الأستاذ المشارك في قسم اللغة الفرنسية في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، والمتخصص في اللغويات، الذي شغل منصب الملحق الثقافي من قبل في فرنسا وسويسرا وبلجيكا وإسبانيا. من أعماله «في الأخلاقيات اللغوية: مقاربات نظرية وتطبيقية» وغيرها من الكتب والمقالات. الكتاب صادر عن المركز الثقافي للكتاب في الدار البيضاء، ضمن المشروع المعرفي الذي نفذته مؤسستان ثقافيتان هما «جائزة الملك فيصل» في الرياض، ومعهد العالم العربي في باريس، الذي سعى لإصدار مئة كتاب عن مئة عالم وباحث من العرب والفرنسيين.
فيلجانس فرنيل واحد من المستشرقين الذين غابوا عن اهتمامات الباحثين، وبشكل خاص الفضاء المعرفي العربي، وقد فضل الكاتب عبد الله الخطيب استخدام كلمة مستشرق باعتبارها محملة بالدلالات الإيجابية والسلبية، واستبعد استخدام كلمة مستعرب التي تميل إلى الحيادية أكثر.
الكتاب محاولة للوصول إلى قراءة فاحصة لأهم أفكار فرنيل، فضلا عن الاحتفاء به بتقديم نصوصه التي تاهت، وهل شكّل فرنيل نموذجا مثاليا للوسيط الثقافي غير المحايد، وما مدى هيمنة البعد الغربي على ممارساته النقدية؟ ورحلة حول حياته ومحطاته الفكرية.
ولد فرنيل عام 1795 شمال فرنسا وتوفى عام 1855. حرص والداه الكاثوليكيان على تربيته وأخوته تربية دينية. بدأ حياته العلمية في التخصص والاهتمام بالعلوم الطبيعية والثقافات السويدية والألمانية والصينية، لكنه انجذب إلى اللغات السامية، وساهمت في ذلك معرفته العميقة بالمسيحية واليهودية وتكوينه الديني. كان له اتصال بواحد من أهم المتخصصين في اللغات السامية، خاصة اللغة العربية وهو المستشرق سلفستر دو ساسي. وهكذا بدأ رحلته إلى الشرق عام 1831. أقام في القاهرة خمس سنوات، ثم عاد إلى باريس ليتم تعيينه لاحقا عام 1939 كأول قنصل فرنسي في جدة. من أعماله «تاريخ العرب قبل الإسلام – اللغة العربية واللغة الحميرية – وغيرها». توفي في بغداد خلال بحثه الأثري في بابل التي أحبها، والتي قال عنها في إحدى رسائله « لا اتأسف إلا على شيء واحد، وهو أنني لم أوجد في هذه المنطقة – بابل – في وقت مبكر من عمري، فلا تغمرني السعادة إلا بوجودي فيها».
هناك إذن أربع محطات في حياة فرنيل المعرفية، الأولى بدايته في الاهتمام بالمعارف الأوروبية، والثانية هي القاهرة بين عامي 1831-1836 واستئناف دراسة اللغة العربية في الأزهر حيث تعرف على رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وغيرهما. من القاهرة كتب أربع رسائل مهمة من رسائله الخمس التي عنونها جميعها بـ»رسائل حول تاريخ العرب قبل الإسلام». المحطة الثالثة هي جدة وشبه الجزيرة العربية وشملت تجربتين، الأولى كتابه ورسالته حول «حال شبه جزيرة العرب في عامي 1837-1838»، الثانية تجربته السياسية كأول قنصل لفرنسا في جدة، حيث كتب رسائل دبلوماسية عن الحجاج وجغرافية المنطقة. المحطة الرابعة هي التنقيب في بابل، التي كتب عنها نصوصا مهمة عن تاريخ التنقيب وظل في بغداد حتى توفي.
ندخل إلى رسائله وشيء من أفكاره. البداية مع رسالته الأولى حول تاريخ العرب قبل الإسلام، التي كتبها بعد أربع سنوات من إقامته في القاهرة، أيْ في حدود عام 1936. قدم فيها تعريفا دقيقا لكتاب «العقد الفريد»، وترجم قصيدة «لامية العرب» للشنفرى الأزدي بمساعدة من فارس الشدياق وغيره إلى الفرنسية. يتحدث عن المشقة التي وجدها للوصول لدراسات عن لامية العرب، وصعوبة استيعاب النصوص العربية لولا مساعدة من الشيخ محمد عياد الطنطاوي، الذي كان من أبرز علماء فقه اللغة العربية في الأزهر. يتساءل السؤال الحاضر حتى الآن وهو هل من واجب المترجم أن يختفي لصالح الكاتب الأصلي، أم عليه أن يحضر بصوته ويتدخل بطريقة ما؟ أهمية الرسالة للقارئ الفرنسي أنها تقدم للقارئ الفرانكوفوني نصوصا تراثية مهمة، تحيل إلى مكونات ثقافية واجتماعية عربية. تفاصيل من الرسالة مثل سوق عكاظ وكيف كان منتدي الشعراء، وغيره من أيام العرب. ثم يأتي نص فرنيل المؤسس لدراسات اللغة الحميرية. كيف كان أول باحث غربي لفت الانتباه إلى ذلك بكثير من التفاصيل. وهكذا فهو رائد دراسات لغات جنوب شبه الجزيرة العربية، وأثر ذلك على علماء الشرقيات، وكيف فصّل فرنيل صلة القرابة بين اللغة الحميرية واللغات السامية. ثم ننتقل إلى رسالته عن حالة شبه الجزيرة العربية في عامي 1937-1838، الذي فيه ترجمة للقاء أو المناظرة بين كسرى والنعمان بن المنذر معتمدا على روايات كتب تراثية متعددة. في الجزء الثاني من المقال ينتقل من تاريخ العرب قبل الإسلام إلى واقع العرب في شبه الجزيرة العربية. علاقة العرب مع المال مثلا وكيف فهم العثمانيون أهميته لهم، فكان الوالي يكسب السكان بالإغداق عليهم بالمال، وكيف كانت مجموعة منهم تقول «عصملي كريم على شريف جمّاع للضرائب»، يتوقف عند منطقة عسير وكيف إنها عصية على الإذعان. يصف أحوال البلاد بدقة، من الحشرات إلى مباني جدة الرائعة، والحواري والأبواب، حتى البحر الأحمر الذي قد يكون اسمه من الشعوب الحميرية التي تسكن على ضفاف البحر. كيف انتقد غيره من الرحالة الأوروبيين العابرين بسرعة، وكيف أن الغطرسة المفرطة لحكام وولاة الدولة العثمانية في منطقة الحجاز وازدراءهم للعرب جعلت العرب يرفضون اللغة التركية لغة الغزاة.
ننتقل إلى إحدى القضايا المهمة التي تتعلق بمذكرات فتح الله الصايغ. الجدل الذي صار حول صحتها بين المستشرقين، خاصة حول زيارته إلى منطقة الدرعية. فتح الله هذا هو شاب سوري ولد في حلب عام 1790 وترك مذكراته حول بادية الشام وخارجها في اتجاه الجزيرة العربية. كيف عرض عليه الإفرنجي الفرنسي ثيودور لاسكاريس أن يعلمه اللغة العربية وكان ذلك عام 1809، وبعدها قطعا معا رحلة على طريق القوافل. ما تعرضا له في الرحلة وكيف وصلت مذكرات فتح الله للقارئ، بعد أن اشتراها الشاعر الفرنسي الفونسو دو لا مارتين وترجمها للفرنسية في الجزء الرابع من كتابه «رحلة إلى الشرق»، هل كان ما كتبه لا مارتين حقيقيا، أم أضاف بالترجمة كثيرا من الخيال؟ الآراء المختلفة في ذلك، ومنها رأي فرنيل أن في الترجمة كثيرا من الخيال. ننتقل إلى ما يسميه المؤلف إحدى خيبات فرنيل الكبرى، وهي الحديث حول حيوان القارن، أو الحصان أحادي القرن «اليونيكورن». رسالة فرنيل حول ذلك أثناء عمله قنصلا في جدة عام 1843. رحلة مع الحصان وتاريخه في الأديان والأساطير، وعلاقة الحيوان بمسألة العذرية، وربطها بمريم العذراء، فوحيد القرن تم تشبيهه في كتابات القرون الوسطى بالمسيح، الذي رفع قرنا لخلاص البشرية وسكن في رحم العذراء، وهو حيوان شرس لا يمكن الإمساك به، إلا إذا وُضعت عذراء أمامه. كيف أيد فرنيل الحكايات الأسطورية لثقافته الدينية. تأتي بعثته للتنقيب في بابل. ما أثير في هذه البعثات من سرقات للآثار أو تحطيمها. ما كتبه فرنيل عن الصعوبات التي تواجههم في المجلة الآسيوية عام 1853. هناك من الكتّاب مثل موريس بيّيه، يرى الفضل لبعثة فرنيل في الكشف عن الثراء الذي تكتنزه منطقة بابل وأمثلة على ذلك. في كل الأحوال لقد بقي فرنيل في بغداد بعدها محاولا إنشاء معهد خاص للدراسات العلمية للمواقع الأثرية في العراق، لكن باغته الموت عام 1855. تأتي الفصول الأخيرة ترجمات من بعض ما كتبه فرنيل عن بعض ما سبق، وبعض ما قيل عن فرنيل نفسه، وهو يعد شحيحا جدا قياسا على ما تركه من إنتاج معرفي لم يتم نشره في معظمه وقتها، وبعض من توقفوا عنده مثل غاستون ديشان عالم الآثار والناقد الفرنسي 1861-1931 أو جون مول. الكتاب صغير الحجم حقا، لكنه شديد الإيجاز دقيق التعبير، يضيف إلى القارئ العربي الكثير من المجهول في تاريخ الاستشراق.
كاتب مصري