أميركا تطلق خطة المساعدات: السيطرة على غزّة… بالغذاء

أميركا تطلق خطة المساعدات: السيطرة على غزّة… بالغذاء
غزة | بعد 70 يوماً من إغلاق المعابر على كامل حدود قطاع غزة، و40 يوماً من توقّف عمل المخابز بشكل كلي، دخلت الإدارة الأميركية على المشهد بثوب «المخلّص» من المجاعة الشاملة، لكن من أكثر الطرق إثارة للريبة والجدل، إذ تشرّبت هذه الإدارة المخاوف والذرائع الإسرائيلية الموصومة بـ»سيطرة حماس على المساعدات»، ووضعت آلية مختلفة، تقضي بأن تتولى مؤسسة جديدة تحمل اسم «مؤسسة غزة الإنسانية» (GHF) مهمة حشد المساعدات الإنسانية من الدول المانحة، على أن تتولى الشركتان الأمنيتان الأميركيتان نفساهما اللتان عملتا عند حاجز «نتساريم» خلال المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى، وهما «SRS» و»UG»، مهمة تأمين المساعدات وتوصيلها إلى أربع نقاط توزيع، حيث من المقرّر أن توزّع على مليون و200 ألف محتاج في المرحلة الأولى، على أن تصل إلى مليوني محتاج في مراحل لاحقة، من خلال 400 نقطة توزيع.
ولن يتدخّل جيش الاحتلال في عمل الشركتين وفقاً لتصريحات السفير الأميركي في إسرائيل، مايك هاكابي، فيما تشير المعطيات المتوفّرة حتى اللحظة إلى أن المؤسسة لا تضع شروطاً على «أهلية» الحاصلين على المساعدات، ولن توزّع هذه الأخيرة في مراكز تحت إشراف عسكري من الجيش الإسرائيلي، ما يعني أن المخطّط الأميركي مختلف عن ذلك الذي تتبناه تل أبيب، ويستهدف ضمان استمرار تدفّق التمويل العربي والدولي له.
وكانت المؤسسة الجديدة حدّدت ما قيمته 50% من سعر كل وجبة، كتكاليف تشغيلية تتقاضاها الشركتان الأمنيتان، فيما يظهر أنها تنتهج أسلوب التقطير واحتساب السعرات الحرارية ذاته الذي يتحدّث به عادة رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو.
وعلى الرغم من ما أثارته المبادرة الجديدة من ردود فعل في الأوساط الإسرائيلية كونها «تقوّض» ورقة الحصار التي يأمل جيش العدو منها أن تساهم في تسريع إخضاع حركة «حماس»، فإن خطة واشنطن تصيد عدة عصافير بحجر واحد، وتصبّ في خانة الرؤية الأميركية – الإسرائيلية المشتركة للقطاع عبر الآتي:
– تساهم هذه الآلية في تقويض عمل المؤسسات الدولية وعلى رأسها «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» (أونروا).
– تجرّد الخطة حركة «حماس» من واحد من أهم مظاهر الحكم والحضور المدني في المشهد، وهو توزيع المساعدات.
– تساهم في تجريد المشكلة من بعدها السياسي والنضالي وتحشرها في الجانب الإنساني الإغاثي.
– تعطّل الأدوار السياسية للفلسطينيين سواء في غزة أو الضفة الغربية.
– يُطرح الدور الانتدابي الأميركي في ذروة الجوع، أي في ظرف تفقد فيه النخبة السياسية السيطرة والتأثير على توجهات الجمهور، ما يضمن الدوران الشعبي في فلك المشروع والمخطّط بدوافع غريزة البقاء.
– تتقاطع تلك الجهود السريعة مع مخطّطات تتحدّث عن إمكانية تشكيل لجنة إدارة للقطاع ترأسها شخصية أميركية، وهو ما يؤسّس لوضع يطول حاله، ويجمّد مشكلة القطاع في إطار إنساني ولا يبحث في حلها.
– ثمة خشية من تحويل المساعدات إلى أداة لإعادة تشكيل البناء الديموغرافي للقطاع، إذ تحدّثت صحيفة «نيويورك تايمز» عن حصر مراكز التوزيع الأربعة في مناطق جنوب غزة لإجبار الأهالي على النزوح من الشمال، بما يساهم في تحقيق مخطّط التهجير.
ويقارن الكاتب الفلسطيني، عبد السلام مرتجى، المخطط الأميركي للقطاع، بالمسار الذي جُرّب في قضايا كوسوفو والبوسنة وتيمور الشرقية وأجزاء من هايتي وجنوب السودان، حيث تمّ تقديم الإدارة الدولية المؤقتة بوصفها حلاً سريعاً لفوضى ما بعد الصراع والانهيار، وهو ما يتم الترويج له في المرحلة الحالية تحت عناوين من مثل «إدارة إنسانية ذات طابع تكنوقراطي». ويرى مرتجى أن المبادرة تظهر في إطار محاولة إعادة بناء المؤسسات، لكنها في العمق «تُقصي الفاعل المحلي من مركز القرار، وتحوّل الشعب إلى جمهور مُدار، لا إلى كيان يُفاوض على مستقبله، حيث يتراجع التمثيل الشعبي، ويتفتّت المجتمع، ويتعاظم نفوذ الشركات الدولية على حساب الإرادة الوطنية».
وتأتي المؤسسة الأميركية الجديدة من هذا النمط، فهي كيان خارجي مُصمَّم ومُموَّل، ومُدار من نخبة تكنوقراطية غربية، ولا يخضع لمساءلة محلية، ولا يحمل تفويضاً سياسياً، لكنه يُمسك بمفاتيح الحياة اليومية لسكان القطاع. وستُشرف المؤسسة على الغذاء والمياه ونظم التوزيع والتمويل وتُدير «مواقع آمنة» على الأرض خارج سيطرة السلطة أو الفصائل، وتعمل وفق معايير رقابية يحدّدها دافعو الأموال وشركات الأمن.
وبهذا المعنى، لا تقوم المؤسسة بملء فراغ مؤقّت، بل تصوغ شكلاً بديلاً للعلاقة بين الناس واحتياجاتهم. كما أنها لا تكمّل السلطة، بل تحلّ محلّها لا بوصفها مشروعاً سياسياً، إنما كمنصة إدارة فوقية.