ثقافة وفنون

كارل أوفه كناوسغارد: كفاح الكتابة عن الذات

كارل أوفه كناوسغارد: كفاح الكتابة عن الذات

مروة صلاح متولي

كتاب يحمل عنوان كتاب «كفاحي» لهتلر، صدر في النرويج عام 2009 وإلى اليوم لا يزال يسجل أعلى المبيعات حول العالم، وتتوالى ترجمات أجزائه الستة إلى اللغات المختلفة، مؤلف الكتاب هو الروائي النرويجي كارل أوفه كناوسغارد، المولود في أوسلو سنة 1968 والذي يصفه بعض النقاد بأنه بروست هذا العصر، نسبة إلى الأديب الفرنسي الشهير مارسيل بروست مؤلف رواية «البحث عن الزمن المفقود» ذات التأثير الكبير على الكتابة والأدب حتى وقتنا هذا. بعد روايتين ونجاح كبير وجوائز أدبية مرموقة، كان كناوسغارد يحاول أن يكتب روايته الثالثة، تلك الرواية التي لم يتمكن من كتابتها واستمرت محاولاته الفاشلة في إنجازها لسنوات، إلى أن قرر التوقف عن محاولة إخضاع ما يلح عليه من مواضيع وأفكار لشكل روائي محدد، وأن يجلس ليكتب فحسب، أن يكتب كما لو أن أحداً لن يقرأ ما سيكتبه. عن أي شيء كان كناوسغارد يريد أن يكتب إذن؟ وماذا كان دافعه الأساسي؟ وما هو ذلك الموضوع الذي استعصى على السرد والخيال والقوالب والأشكال الفنية للرواية؟ إنه الموت. أراد كناوسغارد أن يكتب عن موت أبيه، فعندما مات الأب لم يكن كناوسغارد رأى الموت من قبل، وكان موت الأب حدث الوفاة الأول في العائلة، وأول تجربة من هذا النوع يمر بها الكاتب، لأول مرة يرى جسداً ممدداً فارقته الروح وصار خالياً من الحياة.

يبدأ الكاتب روايته الطويلة قائلاً: «الحياة بالنسبة للقلب أمر غير معقد، إنه يخفق طالما يستطيع، ثم يتوقف». يصف كناوسغارد الموت بشكل عام ثم ينتقل إلى وصف موت محدد هو موت الأب، يذكر تلك اللحظة الرهيبة عندما ذهب ليرى أباه ميتاً في بيت جدته، ويصف الحالة المزرية التي كان عليها نتيجة إدمانه على الكحول. نتعرف إذن على الأب في بداية الرواية ميتاً، ثم نعلم أن هذه اللحظة كانت هي المرة الأولى التي يرى فيها الكاتب أباه منذ أربعة عشر عاماً، حين كان لا يزال في السادسة عشرة من عمره، أما آخر مرة رآه فيها حياً، فيصفها الكاتب في ما بعد بشكل مؤثر، على الرغم من أنه لم يكن هناك وداع ولم يكن كل منهما يعرف أنهما لن يلتقيا مرة أخرى.
موت الأب وولادة الرواية
أمام الموت وجد كناوسغارد نفسه يبكي ذلك الأب الذي كان يظن أنه لا يكترث لأمره، ولا يهتم لموته أو لحياته، فعندما طلب منه عمه أن يأتي للمساعدة في علاج الأب من الإدمان، قال له كناوسغارد: «لا.. دعه يموت». الأب الذي طلق الأم وهجر العائلة عندما بلغ الأربعين من عمره وذهب ليقيم في بيت أمه، لم يكن ذلك هو الألم الوحيد الذي سببه لابنه كارل أوفه كناوسغارد، فالمعاناة تعود إلى ما قبل ذلك بكثير، والعلاقة المتوترة كانت قد بدأت منذ سنوات الطفولة الأولى، التي يسرد الكاتب العديد من مشاهدها، حيث العنف البدني واللفظي والخوف الدائم من الأب حتى أثناء وجوده خارج المنزل وأثناء نومه، إلا أن أقسى ما يذكره الكاتب كأكثر ما كان يعذبه حقاً هو عدم قدرته على التنبؤ برد فعل أبيه، الأمر الذي كان يجعله دائماً في حالة من الحيرة والتردد، يتساءل طوال الوقت هل سيغضبه إن تفوه بهذه الكلمة، أو إن قام بذلك الفعل؟ هل سيتعرض للعقاب إن ارتدى ذلك القميص أم لا؟ كما يصف افتقاده لحرية الاعتراض على أي أمر، حتى إن كان طعاماً فاسداً، فيروي أنه كان يتناول فطوره ذات صباح واستمر في أكل الرقائق المغموسة في الحليب الفاسد خوفاً من غضب الأب، ويذكر تعجب الأب الشديد من احتمال الطفل لذلك المذاق السيئ عندما تناول الحليب نفسه، ويذكر نظرة الأب التي كانت تعبر عن أنه أدرك ما فعله في ذلك الطفل من تحطيم قدرته على الاعتراض بشكل تام.
بعد سرد العديد من مشاهد المعاناة في الطفولة، يتناول الكاتب بشكل تحليلي أكثر نضجاً شخصية ودوافع الأب، الذي كان سياسياً محلياً ومدرساً، يحاول ألا يفكر فيه كأب وإنما كرجل، ويتحدث عنه كإنسان ظل يعاني من وحدة رهيبة، على الرغم من زواجه وإنجابه طفلين، تلك الوحدة التي شيدت وضربت من حوله جداراً صلباً لم يستطع أي شيء أن يحطمه، ويرى كناوسغارد أن إدمان الأب على الكحول كان نوعاً من الانتحار البطيء. كما يتناول الكاتب أيضاً أثر كل ما فعله الأب على شخصيته، حتى بعد أن بلغ الأربعين من عمره وصار كاتباً، فيذكر أنه لا يزال يخشى المواجهة ولا يستطيع أن يواجه أي شخص في أي موقف، كما أنه لا يزال يخشى الصوت المرتفع والصراخ، ويروي كيف انزوى وانكمش باكياً عندما ارتفع صوت زوجته في أول نقاش بينهما.

الرواية هي كفاح الكاتب بالفعل، بدءاً من كفاح الكتابة نفسها، حيث الفشل المتتابع والمحاولات البائسة، ثم الاستسلام للكتابة من دون ثقة في أن ما يكتبه سوف يثير اهتمام أي شخص ويدفعه لقراءة سيرة ذاتية لطفل ومراهق غير سعيد ورجل يعيش حياة عادية لا شيء يحدث فيها، كفاح الكتابة عن الذات في مجتمع يرفض أن يكون المرء نرجسياً يدور حول ذاته، كفاح البوح بما لم يتفوه به من قبل ولم يخبر به إنسان، كفاح الكتابة عن كل ما هو مؤلم وغير مشرف وفاضح أحياناً، كفاح الصدام مع المجتمع والعائلة، التي رفضت أن يكتب عن الأب وهددت بمقاضاته واتهمته بأنه يضحي بعائلته من أجل الأدب والمجد الشخصي وأنه لا يهتم إن جرح الآخرين في سبيل ذلك، وبالفعل تم منعه من أن يذكر اسم أبيه، فالأب في الرواية هو «الأب» فقط من دون اسم يذكر، على الرغم من أن كل الشخصيات ذكرت بأسمائها الحقيقية. كفاح الشخص الخجول إلى أقصى درجة، شديد الانطواء على نفسه، الذي لا يختلط كثيراً بالآخرين ويزعجه التحدث إلى الناس، لكنه على الرغم من ذلك يعبأ كثيراً بما يظنه الآخرون، وبما يقولونه ويؤرقه هذا الأمر، ويهتم كثيراً برأي الآخرين ويعاني أحياناً من حالات مريرة من احتقار الذات والإحساس الدائم بالذنب، الشخص الذي يريد طوال الوقت أن يكون جيداً بينما يشعر طوال الوقت بأنه ليس جيداً على الإطلاق، كان كفاحاً إذن أن يكتب مثل هذا الشخص كتاباً ضخماً تزيد صفحاته على 3700 صفحة نستطيع أن نلخصه في هذه العبارة: تباً لكم جميعاً، لا أعبأ بما تظنون أو بما تقولون. على الرغم من أن الكتاب شخصي للغاية، إلا أن كناوسغارد بأسلوبه الساحر يستطيع أن يجذب القارئ ليس إلى أعماق الكاتب فحسب، وإنما إلى أعماق نفسه أيضاً، فتنشأ تلك العلاقة المتبادلة بين الكاتب والقارئ، فكل لحظة من حياة الكاتب ربما تذكر بلحظة من حياة القارئ، فالبشر متشابهون، على الرغم من اختلافاتهم، فالطفل هو الطفل، والمراهق هو المراهق، والموت هو الموت. وكذلك الموضوعات التي يتناولها في بقية الأجزاء، كمسألة الآخر والهوية، والألم والمرض والحب.
عندما شرع كناوسغرد في مشروعه الأدبي الضخم، وقام باختيار عنوان «كفاحي» كان يعلم بالطبع أن هذا هو عنوان كتاب هتلر، وأنه حتماً سيذكر القارئ به، وسيظل يتساءل عن سر اختيار هذا العنوان، ويبحث عن مدلولاته وربما سيبحث عن أثر هتلر، أو عن هتلر نفسه داخل الكتاب، وهذا ما حدث للكاتب نفسه، فقد أحاله العنوان إلى كتاب هتلر، الذي لم يكن قد قرأه من قبل، لكنه قرأه في خضم انخراطه في كتابة الرواية، وكانت النتيجة أن احتل هتلر مساحة كبيرة من الجزء السادس من الكتاب، يتساءل فيها كناوسغارد كيف تحول هتلر من مراهق عادي يحب فتاة لا يستطيع أن يعترف لها بحبه إلى مجرم يهدد البشرية بأكملها، وكيف للحضارة الألمانية التي أهدت العالم الفلسفة والموسيقى أن تقدم له في ما بعد هتلر، أما السؤال الأهم الذي يطرحه كناوسغارد بشكل عام هو: كيف يمكن للحضارة أن تتهاوى في لحظة؟ وجود هتلر في الكتاب يثير القلق والفضول، ماذا يفعل هتلر في كتاب روائي يتناول سيرة الكاتب الذاتية، وليس فيه من شخصيات لا تمت للكاتب بصلة سوى هتلر؟ ربما كان وجوده ضرورة فرضها التشابه في العنوان ليس إلا.
مروة صلاح متولي
كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب