مقالات

هادي العلوي والرعب السلفي المقدس

هادي العلوي والرعب السلفي المقدس

د. نادية هناوي

على الرغم من أنَّ المفكر العراقي التنويري هادي العلوي ابتدأ مشواره منتميا إيديولوجيا، فإنَّه انتهى لا منتميا يمقت الإيديولوجيا ويتقاطع معها أيّا كانت صورها، بعد أنْ اكتشف خطرها في تحجيم الفكر وتقييد أدواته. ولقد سعى جاهدا إلى التجرد منها عبر التفريق بينها وبين العقل من جهة، وبين الدين والحضارة من جهة أخرى. ليكون واحدا من المفكرين العرب الذين ما انصاعوا للإيديولوجيا ولكنهم لم يتخلصوا منها تماما. وهو ما يتضح في مختلف كتاباته التي فيها تلاقت قواعد البحث العلمي بالمرامي الإيديولوجية. ولا يقدح ذلك بمنجزه الفكري لما فيه من ثقافة عميقة تتجذر أصولها في البنى العميقة للمجتمع العربي وتمتد آفاقها إلى كثير من وقائع التاريخ الإسلامي، جامعا ما بين شخصية المفكر الإسلامي والباحث الاجتماعي والمؤرخ السياسي والناقد الأدبي والمفكر اللغوي والعالم الانثروبولوجي.
وليس غريبا بعد ذلك أن يكون مناوئوه من الطرفين: اليميني المحافظ ممثلا بالمتزمتين دينيا واليساري المعارض بنوعيه السلفي والماركسي. بيد أن ذلك لم يثن عزم هادي العلوي عن المضي في نهجه التنويري، باحثا علميا بخلفية إيديولوجية ما تنفك تظهر هنا وهناك، فيفيد منها حينا ويمقتها – إن هي فرضت نفسها عليه – ويتحرز من بروزها ويتبرأ من تبعاتها حينا آخر. ومن صور ذلك مثلا لا حصرا تأكيده القول إنَّ الماركسية خير مساعد للمؤرخين الغربيين على التخلص من عيوبهم الناتجة عن الكتابة في وسط تهيمن عليه الرؤى الرأسمالية للعالم.
ولقد تخصص العلوي بدراسة التاريخ الإسلامي الذي هو بالنسبة إليه كله «سياسة» (يرتبها المؤرخون تبعا للدول، ويقدمون رواية الحدث السياسي والعسكري على غيره) ولم يُدخل العلوي البحث في النبوة في التاريخ السياسي، لأنَّ مكانها الفلسفة واللاهوت. وإذا كانت السياسة تسيّر المجتمع البشري، فإنَّ التاريخ غير مقدس وما من واقعة فيه هي محظورة أو غير قابلة للبحث من ناحية عرض أحداثها وتحليل أبعادها وتأويلها. وهو ما أخذ الباحثون العراقيون يتوجهون إليه منذ أواسط خمسينيات القرن العشرين، فدرسوا ثورة الزنج وقرامطة العراق والثورة الخرمية والحركات السرية في الإسلام.
وحدد هادي العلوي منهجه في هذا المضمار التنويري بأنه مادي- علمي، ومن خلاله استطاع إعادة قراءة بعض وقائع التاريخ السياسي الإسلامي قراءة انطوت على البحث عما سماه (الرعب السلفي المقدس) متمثلا بالموضوعات الحساسة والدقيقة مثل الاغتيال والتعذيب والقلق، مستهديا بفكر ابن خلدون ومقتديا بأسلوب طه حسين في دراسة الشعر الجاهلي وأدبه، هذا إلى جانب تأثره بمنهج المؤرخ السياسي العراقي فيصل السامر.
يتضح استحكام التاريخ السياسي على فكر هادي العلوي في غالبية كتبه، وأولها «في السياسة الإسلامية» 1974 فتألَّب عليه الذين يقدسون التاريخ الإسلامي، ويرون فيه محظورات لا يجوز الخوض فيها. وبسبب بعض الحملات الموجهة ضد العلوي، اضطر إلى مغادرة العراق ومزاولة حياته خارجه. ومضى يطرح رؤاه بفكر حر لا تؤطره حدود ولا تقيده قواعد بكتبه «الاغتيال السياسي في الإسلام» و«من تاريخ التعذيب في الإسلام» و«فصول من تاريخ الإسلام» و«شخصيات غير قلقة في الإسلام» و«المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة».
ولكل كتاب أطروحته المميزة، وفيها اجتهد العلوي اجتهادات خاصة؛ ففي موضوعة الاغتيال السياسي، تتبع العلوي الوقائع بحسب تسلسلها الزماني من دون أن يجد نفسه مضطرا أن يراعي السائد من الأفكار، بل تعامل معها بشكل مادي علمي. وغايته «تطهير الذات ومعها الآخر الاستشراقي من الرعب السلفي المقدس». واعتبر الاغتيال أصلا بني عليه الحكم في حقب من العصور الإسلامية، وتكتيكا سياسيا وتحرّكا اجتماعيا أملته ظروف العرب الخاصة، أعطى نتائج ذات مفعول بالنسبة إلى مسيرة تلك الحقب من «دون أن ينعكس أو يتحول إلى نزعة إرهابية».
وبالاستناد إلى كتب التاريخ والمصادر الأدبية يتأكد للعلوي أنَّ وقائع الاغتيال ليست «إجراءات تنفيذ حكم الإعدام» وأن لا وسيلة أخرى غير الاغتيال كان بالإمكان استعمالها من أجل التخلص من العناصر المؤثرة وكإجراء سياسي عسكري لا يرى هادي العلوي فيه سابقة لحكم قضائي. وكان الاغتيال السياسي قد بدأ مع بدء الإسلام عندما مارسه عتاة قريش ضد المسلمين الأوائل مثل قتل ياسر بن عامر العنسي وزوجته سمية بنت خباط.
وإذا كانت الاغتيالات في عهد النبوة محدودة عدديا ومحصورة زمنيا، فإنها في الخلافة الراشدية جاءت في مجرى الصراع السياسي الذي انفجر بين المسلمين لحظة وفاة النبي، حتى أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين تم اغتيالهم هم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب.
وتوزعت الاغتيالات في عهد الخلافة الأموية بين السلطة والمعارضة، واتسع نطاقها في العصر العباسي، وصار بلا حصر بسبب تشعب الوقائع وتعقد أحداثها. وبعض الاغتيالات غريبة مثل اغتيال أبي مسلم الخراساني وزعماء البرامكة، واغتيالات أمراء الحرب الأتراك، وظهور حالات شاذة مثل اغتيال السلطانة لأولادها. ودارت الاغتيالات في بلاد الأندلس وكذلك في العصر الفاطمي والسلجوقي في مجرى ما حصل من صراعات سياسية وحروب أهلية، أخطرها ما وقع في الحقبة الغرناطية الأخيرة كاغتيال إسماعيل بن فرج.
من توصلات هادي العلوي الخاصة أن الصراع الذي خاضه الإسلام الأول كان «من الحدة بما يكفي لتعزيز صياغة شخصية تناحرية مشتركة بين طبقات المجتمع الجديدة الظالمة والمظلومة. ولو ان هذه الشخصية لم تنشأ من فراغ إذ يمكننا في الواقع أن نتابعها في الشخصية الجاهلية التي يشغل السيف موقعا مؤثرا في علاقاتها، والمجتمع الجاهلي كما نعلم مجتمع تناحري لم يعرف السلم إلا كهامش استغرقته الأشهر الحرم الأربعة في أضيق نطاق»؛ (من كتاب «الاغتيال السياسي في الإسلام»، ص 56).
وبحث هادي العلوي عميقا في تاريخ الفرقة الإسماعيلية، فوجد أنَّ لهم بسالتهم أيام الحرب الصليبية. وهذا ما جعلهم أشد خصوم الأوروبيين ومصدر رعبهم الأساس. والأوربيون هم من أطلق على الإسماعيلية اسم «الحشاشين» وفنّد العلوي بدعة تعاطيهم الحشيشة بالرجوع إلى مصدرين: الأول قاموس أكسفورد وفيه لفظ الحشاشين يعني المسلمين المتعصبين أيام الحروب الصليبية، في حين لا يرد هذا اللفظ في المصادر العربية، بل الاسم الشائع هو الفدائية. والمصدر الثاني الغزالي الذي بذل ما في وسعه لفضح الباطنية بتوجيه من السلاجقة والعباسيين لكنه لم يذكر هذا الاسم الجارح بين عشرة أسماء نص عليها في كتابه «فضائح الباطنية» و(ما كان ليشيح عن هذا الاسم تورعا).
أما التعذيب في كتاب «التعذيب في الإسلام» فالمقصود به التعذيب السياسي الموجَّه في الأساس ضد الطبقات المسحوقة لصالح الطبقة أو الطبقات السائدة. واستعرض العلوي صنوف التعذيب ومنها الاعتراف والجباية والعقوبة كما أنَّ للتعذيب فنونا تتنوع عبر العصور الإسلامية كالضرب والجلد وحمل الرؤوس المقطوعة على الرماح أو تعليقها على الأعمدة وتقطيع الأوصال وسلخ الجلود حرقا. وتناول العلوي مواقف الفقهاء من التعذيب السياسي الذي من وسائله التنور والمقدحة والنورة والتبريد والتكسير بالعيدان وقرض اللحم والتعذيب الأدبي.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ للعلوي آراءً خاصة بنحو اللغة العربية ونقد الشعر كما له آراء فكرية سياسية مبثوثة في كتبه؛ منها «أنَّ اشتداد الصراع ضد الغرب يوجب الحاجة إلى استثارة أمجاد العدل بعدما استثرنا ما يكفي من أمجاد القوةّ، (كتاب «شخصيات غير قلقة»، ص 246)؛ وأنَّ الدولة في الشرق لم تكن معنية بقضايا العدل، بل المعارضة هي التي عنيت بهذه القضايا. والعدل هو محور العلاقة بين المعارضة والدولة أي بين الناس والحاكم. ويرى العلوي أنَّ المفكرين العرب ـ السلفيين منهم والعلمانيين- انصاعوا لمدارس الاستشراق. وهم في جملتهم تلامذة ومريدون للمستشرقين. وبسبب رسوخ التقاليد الاستشراقية في الوعي الثقافي العربي، يجد العلوي أنَّ إدوارد سعيد أخفق في الوصول إلى هدفه الكبير من وراء كتابه «الاستشراق»، ذلك أنَّ للاستشراق هيبة يصعب انتزاعها بكتاب مهما بلغت مصداقيته.
ويبقى المجهود الفكري الذي تركه هادي العلوي قيما وكبيرا، لكن من النادر الوقوف على دراسة وافية تستقصي أبعاده المنهجية وطبيعة أغراضه. ولا تزال الحاجة قائمة إلى وضع دراسات جديدة في فكر هادي العلوي تتلاءم والقيمة المعرفية التي تحملها كتاباته.
*كاتبة من العراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب