ثقافة وفنون

النوستالجيا والتاريخ المفقود: كيف تتداخل الذاكرة مع الواقع في ‘فورور’؟

النوستالجيا والتاريخ المفقود: كيف تتداخل الذاكرة مع الواقع في ‘فورور’؟

منير الحايك

يركّز المفكّر فريدريك جيمسون على محاور ثقافة ما بعد الحداثة فيقول إنها ثلاثة: الاستعاضة عن الأدبيات العلمية بالمحاكاة الساخرة اللاذعة، والـمَيل للنوستالجيا، والتركيز على اللحظة الآنية وتقديسها على ما سواها، ولعلّ الناظر إلى هذه المحاور الثلاثة يعتقد أنها متعارضة وارتباطها غير متوازن، أو على الأقل، كيف للنوستالجيا أن تكون من ثقافة ما بعد الحداثة! وسأنتقل من «النوستالجيا» (الحنين إلى الماضي) لأدخل إلى عالم رواية «فورور» (دار نوفل 2024) لنزار عبد الستار.
هي بالفعل رحلة البحث للحصول على «فورور سواريه شنشيلا بيج، يعود لمونولوجيست كباريه «مولان روج» في بغداد: وحيدة جميل»، تبدأ الرواية مع اتصال بسكرتير الشهبانو فرح ديبا بهلوي، زوجة شاه إيران، حيث يتصل صابر عفيف، بطل الرواية، ابن وحيدة جميل، مطالبا بالفورور الذي أهدته جيهان السادات للإمبراطورة عام 1972، والذي يُغلَق الخط في وجهه، ويُطرَد من عمله في دار «كريستيز» للمزادات في لندن. لقد قمت بنقل مختصر الصفحة الأولى من الرواية لسبب، ألا وهو أنّ الأحداث التي اعتدنا الإمساك بها أولًا بأول، يعطينا إياها نزار عبد الستار منذ البدء، ويقول استعد لقراءة ما هو مختلف.
تتكرر في الرواية «فورور السواريه الشنشيلا البيج»، و»مونولوجيست في كباريه مولان روج: وحيدة جميل» عشرات المرات في الرواية، على الرغم من أن النصّ كان يمكن اختصاره عند الحديث عن الفورور وصاحبته الأصلية، «الفورور» و»وحيدة»، والمتلقي كان سيتابع الأحداث دون أيّ تغيير أو ارتباك، ولكن الكاتب أصرّ على هذه الدقة والتكرار، وأسبابه ستتضح، عندما ينهي المتلقي الرواية، فصابر كان يحفظ الأمر ويكرره كيلا ينسى، ولأنه حفظه طفلا، والرواية أرادت نقل الأمر بأمانة حفظ ذلك الطفل، ولكن نهاية النصّ أرادت التركيز على الوهم الذي كان في ذاكرة ذلك الطفل.
هذا الفورور تعيره وحيدة لمريم فخر الدين ليظهر في فيلم «حكاية حب» وخصوصا أغنية «بتلوموني ليه»، وهو يظهر حقيقةً، إلا أنه يبقى مع الممثلة الشهيرة لأسباب تذكرها الرواية، ذلك الفورور الذي أهداه سفير الاتحاد السوفييتي لوحيدة، ومعه بدأت أحلامها بالترقّي من مونولوجيست إلى راقصة رئيسة مع فريد الأطرش، إلّا أن ضياع الفورور صحب معه ضياعا للأحلام والفرص أيضا، ومن بعد ذلك الضياع، تموت وحيدة عام 1962 وتُدفن في بيروت. الحديث عن تلك الأحداث لا يُعتَبر حرقا لها، فالرواية بدأت مما قبل نهاية أحداثها بشهر أو عدة أشهر تقريبا، ولكن لعبة الزمن فيها كانت الأساس، ولم تكن لعبة مقصودة بقدر ما كانت ترد بشكل عفوي، فالراوي كان يتنقل بين الأحداث، ليظن القارئ أنه يقرأ عن أحداث جرت بعد الاتصال الشهير، ولكنه يكتشف ما هو أكثر عمقا، ويستدل على حِرفية الكاتب من خلال هذا التنقل السلس.
تأخذنا الرواية إلى أيام فريد الأطرش وفيلمون وهبة، بين لندن وبغداد وبيروت، وتستقل وتنتهي في بيروت، حاملة صابر وسيلين حبيبته، الذي يبقى وفيّا لها وترافقه في كل مغامراته، ومعهما نتعرف على حياة وحيدة الراقصة والدته، وبدرية عازفة الكمان المحترفة التي عزفت مع فرقة رفيق حبيقة خلف فريد الأطرش، خالته، التي امتلكت كمانا يقدّر بملايين الدولارات، والذي أصبح إرثا له أيضا. هو امتلك الكمان ولم يبعه على الرغم من كل المغريات، وأصرّ على استعادة الفورور.
تغوص الرواية إلى حدّ الإغراق في واقعية وتفاصيل الوسط الفني، في لندن، مع دار كريستيز، وغيرها، ومن يعمل فيها، ويطرح النص أسئلة كبيرة وعميقة بين الفنّ وفنيّته، ومافيات المزادات وسيطرتهم على الأذواق وتسييرها، وبالتالي فنيّة الفنّ، وهنا أسئلة تُترك لذوي الاختصاص، مع أنها احتلت المساحة الأكبر من النص، ولكن ما يهمنا من هذا الأمر، كيف يمكن إسقاطه على حال بلادنا، وهذا على ما أظنّ كان غاية من غايات الكاتب.
رحلة الفورور طويلة، من السفير إلى وحيدة، ومن ثمّ إلى مريم فخر الدين التي يقابلها صابر أيضا، ومنها إلى زوجة السادات، ومن ثمّ إلى الإمبراطورة، وفي نهاية النصّ إلى ابن صاحبته الأصلية، ولكن ما هو هذا الفورور بالفعل، الذي خاض تلك الرحلة، ولماذا بقي محافظًا على لونه وشكله وأناقته وجودته؟ الإسقاطات كثيرة، خصوصا من قِبَل قارئ لبناني يقرأ لكاتب عراقي، وخصوصا عندما يناقش زمن كتابة النص وزمن القراءة، ما بين الـ2023 والـ2024، ولكنني سأقول إن هذا الفورور هو بلادنا بالفعل، وليست نظاما أو أفكارا أو أيديولوجيا أو حزبا.. بعينها، بل هو كلّ البلاد، والنوستالجيا التي حصلت من الكاتب والقارئ معا، لم تكن إلاّ بوصفها نوعا من محاور ما بعد الحداثة، فالجديد هو العودة إلى ذلك الماضي، لا ليكتب نصّا تاريخيّا حسب الرائج، ولا للعِبَر والدروس وما شاكل ذلك من أوهام بالية، بل ليقول النصّ إننا إن أصررنا على البحث، وعلى التمسّك بالبلاد، مهما كانت المغريات، لا بدّ أن نسترجعها.
نهاية النصّ كانت الأعمق والأقسى، خصوصا مع إمساك صابر الفورور بين يديه، من هناك تبدأ عيناك بالاعتقاد بأنهما تستطيعان حبس الدموع، إلى أن يأتي مشهد دخول المقبرة لتجد نفسك لا تستطيع التحكم بالدموع. والأمر يعود إلى سببين، الأول هو اللحظة العاطفية، التي تتباين بين متلقٍّ وآخر، فأحدنا يتأثر بالموقف حسب تجربته الشعورية، أو حسب الموقف، أو حسب حالته الآنية، أما السبب الآخر، وهو أحد أعمق غايات الرواية، فهو صابر نفسه، الذي لاحق الفورور وحافظ على الكمان، بوصفهما «الإرث» الذي أراد إرجاعه إلى وحيدة (العراقية التي دفنت في بيروت عام 1962) وإلى بدرية (العراقية التي دفنت هناك أيضا عام 1992)، أهدر حياته بملاحقة الإرث، ولم يركّز على الحفاظ على الواقع والمستقبل، اللذين مثّلهما قبرا وحيدة وبدرية، هذان القبران اللذان فُقدا، ليس لأمر، بل بسبب أمور روتينية حصلت، وبسبب موت حارسهما واستلام آخرين لا يعرفون شيئا عنهما، فبلادنا، بقدر ما يجب البحث عن إرثها وتاريخها للحفاظ عليه، لا بد من تخصيص الجهد الأكبر للحفاظ على واقعها ومستقبلها، وعدم الوثوق بأفراد بأنفسهم، بل التركيز على نشر مفهوم أهمية الحفاظ على هذا الواقع والتركيز على أهمية التخطيط للقائه المدروس والصحيح بالإرث والاستمرار نحو المستقبل.
الرواية توهم بالنهاية السعيدة، فقد حصل صابر على الفورور، ولكن الوهم قادنا نحو التفكير بعمق، والتأثّر بعمق في لحظة واحدة، فبعد رحلة صابر الذي عرف بأنه استُغِلّ في عمله، بقيت سيلين إلى جانبه وقررا الاستقرار في بيروت، معهما الفورور والكمان، أما الحقيقة والواقع، فهو أنّ كلّ تلك الرحلة، وكل ذلك الوفاء من صابر، للإرث ولعمله ولحبيبته، على الرغم من أنه حصل بالفعل، ولكن الوفاء لبدرية ووحيدة، اللتين تحاول سيلين إقناعه بأنهما فرحتان، لم يكن لهما بالفعل، بل للوهم، وهنا سؤال الرواية الأكبر، كيف يجب أن يكون الوفاء للبلاد، حيث ننتمي، وللناس حيث ننتمي، وللتاريخ حيث ننتمي، بالفِعل؟

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب