ثقافة وفنون

ليلة فيها السماء تكوّرت كالتنور!

ليلة فيها السماء تكوّرت كالتنور!

جمال العتّابي

فجر السابع عشر من يناير/ كانون الثاني عام 1991 في الذاكرة إلى الأبد، طعم أيامنا صار ملحاً، أطفالنا ينمو فيهم مرض ويدثّرهم وجع، بائسون بلا فرح، إنه عهد الديكتاتورية، عقم الزمان الرديء. في العراق كانت الأمهات يضرسن وحام الشهور، كل شيء ضنين، وأبناء أبنائنا في انتظار المخاض الطويل، كان وعداً من الطغاة أن تكون السماء جحيماً، والوطن جرّة رماد، ومياه الرافدين غليان دم، نترقب اللحظات الأخيرة عند منتصف الليل، هنا توقف الزمن لتتحرك ماكنة الهمجية الأمريكية، القمر بات يأسره الموت، والسماء مكوّرة كالتنانير، ترمي شواظ حريق فتشتعل الديار، لكأن البلاد جهنم، والعاصفات ثقال رحى كالقبور. كل ما شاده الإنسان ضاع بغمضة عين، وطوته الحروب بظل الشعارات (نحرق نصف إسرائيل، عودة الفرع إلى الأصل، المحافظة التاسعة عشرة، قادمون يا قدس، الطريق إليك يبدأ من تحرير المطلاع والعبدلي!).
في الحروب القديمة، وحتى الحربين العالميتين، كان القاتل يواجه من يقتله، من خلال الاشتباك، الالتحام، ومهما طال التمهيد لذلك فثمة لحظة تحين للالتحام، لكن هذه الحرب أحالت مصائر البشر إلى مجرد نقاط ضوئية على شاشات الرادار المستديرة، المثبتة أو المحمولة على متن طائرات الأواكس. في نقطة ما من الليل تقف بارجة أو مدمرة بعيدة جداً عن الهدف المرصود، عليها أناس جاؤوا من أصقاع بعيدة، كلهم لا يعرفون أرضنا التي سوف يصوبون إليها صواريخهم، الصاروخ نفسه كتلة من الأسلاك الدقيقة جداً، بعضها ملوّن، وصمامات رقيقة، وأخرى غليظة، ورقائق من الصلب والسليكون، ونظريات علمية تراكمت عبر آلاف السنين، ومعادلات رياضية معقدة ابتكرها الإنسان من أجل القتل. كائن معدني، أصم، أخرس، أسهم في صنعه مجهولون من مدن بعيدة، وديانات مختلفة، وجنسيات من (السيك والكركة)، في شركات مهمتها تجارة الموت. مجهول في الليل يضغط زراً، مجرّد زر، عندئذ يدمدم الصاروخ ويرتجف للحظات ثم يشق الفراغ، الفضاء، الفاصل ما بين القاتل والقتيل، لا هذا يعرف ذاك، ولا توجد أدنى صلة لأحدهما بالآخر، ولكن ينقضّ الصاروخ الرهيب في أجزاء من الثانية لا تقاس بساعات معاصمنا، فيسحق أعماراً كان يمكن أن تستمر لتملأ الأرض عمراناً، وربما يدمر بيوتاً من الطين لا تقدر على مقاومة قطرات مطر غزير، قد يخرس أغنية، أو أشعاراً، أو تاريخاً كان مستمراً حتى لحظة سقوطه.
الإنسان لا يعرف من صوّب إليه، ومن أين أتاه الهلاك المبين، في الوقت ذاته تبدو مواجهة الموت مشجعة على الاستمرار في تحديه، فالإنسان لا حدود لقدراته على التكيف مع أعتم الظروف وأفظعها، حتى مع الموت المحلق، والعائم والطائر، ويظل في ذروة القتال واثقاً أن الرصاصات أو الشظايا المحوّمة، المنفلتة، يمكن أن تصيب الآخر من حوله، عداه هو، وهكذا يستمر المرء في المواجهة ويستمر النوع. منذ الأزمنة السحيقة وتاريخ الشعب العراقي نضاح بالدماء، والفتن، الغزوات التترية المقبلة من سهوب آسيا تجتاح أراضيه في البداية، تمر عبر بوابة أرض الرافدين أولاً، دماء غزيرة سالت في حروب شتى، أسبابها شتى، من الصراعات إلى حماقات الطغاة بحثاً عن أوهام البطولات، والقائد الضرورة.
بلا شك كانت آثار الدمار الذي خلفته حرب 91 موضوعاً لمراكز البحوث والدراسات والشركات، بالدعاية لأدوات الحرب والموت التي تنتجها، وسائل الإعلام كافة انشغلت في الخوض في دراسة شخصيات جنرالات القتل، ربما تطرق الأمر إلى أزيائهم وتسريحات شعر القادة، ويطال الأمر زوجاتهم، ألم تنشر الصحف أن زوجة شوارتسكوف سرقت الأضواء من زوجة بوش في الكونغرس عند ظهورها. لكن هذا كله لا ينسي الأم الثكلى ابنها المفقود، أو الشاب الذي فقد أحد أطرافه، أو كهلاً لفظ أنفاسه الأخيرة تحت وابل الرصاص. هذا الإنسان ويا لحسرتي ..عراقي. ليتهم تركوا الطيور تصدح في شدوها، ليتهم تركوا الشعب، إن شاء يبني له وطناً يسوره بالأسى والجنون، أه يا هذا العراق الجميل الذي ما استراح بأعوامه السيئة.

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب