رؤية إسرائيل لـ”اليوم التالي”: لا قدم لأبو مازن في غزة.. ولو بعودة حماس
رؤية إسرائيل لـ”اليوم التالي”: لا قدم لأبو مازن في غزة.. ولو بعودة حماس
بعد أسبوعين تقريباً ستنتهي المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوقيع عليه بين إسرائيل ولبنان. وحتى 27 كانون الثاني الحالي، ربما تنسحب إسرائيل من كل أراضي لبنان. والآن أيضاً تم التوقيع، بعد كثير من الآلام، على الاتفاق مع حماس. ورغم أن أحد الاتفاقين هو مع دولة والآخر مع منظمة، فهذان الاتفاقان عملياً تم التوقيع عليهما بين إسرائيل وتنظيمات تعتبر إرهابية، حيث الهدف فيهما وضع قيود قانونية على مجال النشاطات العسكرية لهذه التنظيمات، والمطلوب فيهما موافقة ومصادقة هذه التنظيمات. كان مطلوباً لكليهما تدخل وضغط من قبل دول أجنبية للتوصل إلى التوقيع عليهما. كل من هذين الاتفاقين يوفر لإسرائيل حرية عمل عسكري ضد أي خرق، وكلاهما محوطان بإطار سياسي ودولي، للرقابة والتعهد بعدم خرق هذه الاتفاقات.
يبدو أن الشرط الرئيسي لإجراء المفاوضات في الحالتين كانا مختلفين بشكل جوهري. حسن نصر الله لم يحتجز 250 مخطوفاً، الذين كان يمكنه استخدامهم كورقة مساومة. ولكنه منع عشرات آلاف الإسرائيليين، الذين أخلوا بيوتهم في شمال البلاد، من العودة وجعلهم رهائن لوقف إطلاق النار.
حماس في المقابل، لم تعد تهديداً يمنع عودة سكان غلاف غزة إلى بيوتهم، لكنها ستستمر في احتجاز عدد من المخطوفين إلى حين انتهاء المرحلة الأولى للاتفاق، وتحريرهم جميعاً سيكون مرهوناً باتفاق آخر، قد يضمن انتهاء الحرب بشكل نهائي.
وثمة فرق آخر يتعلق بأهداف كل اتفاق من هذين الاتفاقين. في لبنان، تطمح إسرائيل في الواقع إلى نزع سلاح حزب الله، لكنها تكتفي بانسحاب قواته إلى ما وراء الليطاني، ومهمة نزع سلاحه أبقتها للجيش اللبناني. هي أيضاً لا تطلب تفكيك حزب الله كجسم سياسي، ولا تطلب عدم إشراكه في الحكومة والبرلمان. أما في غزة فإن نزع سلاح حماس يبدو مهمة حصرية لإسرائيل، التي تطمح إلى تدمير المنظمة بشكل مطلق، كإطار عسكري وإطار سلطوي أيضاً.
المفارقة هي أنه مقارنة مع الاتفاق مع لبنان الذي يمكن عرضه كاتفاق مع دولة، ففي غزة توقع إسرائيل على اتفاق مع منظمة، التي بالنسبة لها لا يجب أن تكون موجودة بعد عودة جميع المخطوفين، وستكون “مدة حياتها” مرهونة بالفترة التي ستبقى فيها على قيد الحياة. هكذا، في الوقت الذي ستكون مدة حياة حزب الله في لبنان مرهونة فقط بالعوامل السياسية وبأدوات الضغط التي يمكنه استخدامه عليها، فإن وضع حماس مختلف كلياً. أمام التهديد الوجودي الذي تلقيه عليها إسرائيل، يتعين على حماس مواصلة الاحتفاظ بالسور الواقي الإنساني الذي يوفره لها المخطوفون لمواصلة بقائها كمنظمة، إلا إذا تحققت الشروط في الجزء الثاني للمفاوضات، التي ستمكنها من وجودها وسيطرتها في القطاع.
لدى إسرائيل إمكانية التخلي عن المخطوفين الباقين، والذين سيتم إطلاق سراحهم في الأسابيع السبعة القادمة، واستئناف الحرب في غزة إلى ما لا نهاية. مع ذلك، لم يعد باستطاعتها الافتراض بأن الرئيس ترامب سيظهر تجاهها طول النفس، وأنه لن يفتح باب جهنم، هذه المرة ضدها، عندما يكون استمرار الحرب يعني تلاشي احتمالية التطبيع مع السعودية.
الاحتمالية الثانية التي تصمم إسرائيل على رفضها، هي إقامة حكم فلسطيني في غزة يدير الخدمات المدنية ويبعد أيدي حماس والعصابات الأخرى عن قوافل المساعدات الإنسانية وإعادة ترميم البنى التحتية في القطاع. للإدارة الفلسطينية احتمالية جيدة لتجنيد قوة دولية وعربية توفر لها الدعم العسكري- الإمارات وعدت بالمشاركة فيها. وجود إدارة فلسطينية كهذه لن يحرم إسرائيل من العمل ضد أي نشاطات ضدها تخرج من القطاع، مثلما تفعل في الضفة الغربية، أو مثلما يعطيها الاتفاق مع لبنان.
يجدر التذكير بأن خطة كهذه من الهجمات العسكرية المركزة للقضاء على نشاطات ضدها، اقترحها أيضاً رؤساء جهاز الأمن عندما تمت مناقشة قضية التنازل عن السيطرة في محور فيلادلفيا قبل بضعة أشهر. رفض نتنياهو في حينه هذه الخطة، وأصر على السيطرة الكاملة وغير المحدودة على محور فيلادلفيا، “أساس وجودنا”، وعلى معبر رفح.
الآن حيث الانسحاب من محور فيلادلفيا ومن معبر رفح جزء لا يتجزأ من اتفاق إعادة المخطوفين، فإن خطة النشاطات العسكرية التي تم حفظها ستعود إلى الحياة، لكنها لن تكون كافية لمنع استمرار سيطرة مدنية لحماس، ليس فقط على قوافل المساعدات الإنسانية التي ستزداد بشكل ملحوظ وستوفر للمنظمة مصدر دخل كبير. لمنع هذا التطور، على إسرائيل التطلع لأن تكون البنية السلطوية في القطاع شبيهة ببنية لبنان، حيث الدولة هي الجهة الرسمية المعترف بها، والمخولة الوحيدة لحمل السلاح، وهي أيضاً التي تتحمل مسؤولية تنفيذ الاتفاق وإدارة الدولة.
لبنان ليس نموذجاً للدولة القوية، وجيشه ليس جسماً قوياً يمكنه التعامل وحده مع التخريب المسلح الداخلي كالذي يمثله حزب الله، بل هو دولة فاشلة ومفلسة وفاسدة. منذ فترة غير بعيدة، نجح في انتخاب رئيس للدولة ورئيس حكومة، وحتى الآن ليست لديه حكومة عاملة. ولكن هذه الخصائص البائسة لم تمنع إسرائيل من التوقيع معه على اتفاق، ولم تطلب الإدارة الأمريكية منه أجراء إصلاحات بعيدة المدى قبل الاعتراف بصلاحيته وتمثيله كما لم تضع شرطاً عليه، بإبعاد حزب الله من صفوفه.
إضافة إلى ذلك، الموارد الأهم للبنان هي استعداد دول كثيرة، عربية وغربية، للمساعدة في إعادة الإعمار، وأيضاً الشرعية الجماهيرية التي سيعتمد عليها إذا أظهر القدرة على مواجهة الأزمات وطرح أفقاً اقتصادياً وسياسياً موثوقاً.
في غزة يمكن ويجب تشكيل هيكلية سلطوية مشابهة، حتى لو لم تحصل على لقب الدولة. مثلما في لبنان، ففي المناطق، السلطة الفلسطينية لا ينطبق عليها تعريف الدولة النموذجية؛ فشرعيتها الجماهيرية معدومة، وخزينتها فارغة، والفساد جزء من جوهرها، وقيادتها منقسمة. مقارنة مع لبنان، لا تملك قوة عسكرية معترفاً بها. لكنها الجسم الأكثر تجربة في الإدارة المدنية لملايين السكان، والبنى التحتية فيها تعمل، ولنظامها صلاحيات. منظومات القضاء والتعليم والصحة فيها توفر الخدمات التي يمكنها أحياناً منافسة الخدمات التي يحصل عليها المواطنون في لبنان.
مثل حكومة لبنان أيضاً، لا قدرة عسكرية للسلطة الفلسطينية تسمح لها بمواجهة قدرة حماس. ولكن مقارنة مع الحكومة اللبنانية، التي تعتبر حزب الله جزءاً من منظومة النظام، فإن السلطة الفلسطينية، لا سيما رئيسها محمود عباس، تطرح موقفاً ثابتاً ومصمماً ضد إشراك حماس في الحكم. عشرات جولات المحادثات التي استهدفت إيجاد إطار سلطوي مشترك مع حماس، انتهت بالفشل. وحكومة الوحدة التي تشكلت في 2017 تحطمت خلال سنتين، واتفاقات المصالحة التي تم التوقيع عليها بين م.ت.ف وحماس بعد دفن الحكومة، بقيت على الورق.
قال نتنياهو في السابق إن على السلطة الفلسطينية تطبيق النظام والقانون في القطاع والتغلب على حماس. إسرائيل لن تجلس على طاولة المفاوضات مع الإرهابيين الذين يريدون تدميرها. فإسرائيل ساعدت على إقامة حماستان وجلست للتفاوض مع إرهابيين ووقعت على اتفاقات معهم أيضاً. والآن تتبلور الظروف التي ستسمح لبديل آخر بإدارة القطاع، التي هي بحاجة إلى أيديولوجيا إسرائيلية مناسبة.
تسفي برئيل
هآرتس 17/1/2025