اللبنانيون ينتظرون «لبنان الجديد» بعد سنوات من اليأس وانحلال الدولة.. لكنهم يخافون الخيبة

اللبنانيون ينتظرون «لبنان الجديد» بعد سنوات من اليأس وانحلال الدولة.. لكنهم يخافون الخيبة
رلى موفق
يريد اللبنانيون أن يحلموا بأن المستقبل سيكون أجمل، لكنهم يخافون من الحلم بأنهم سيعودون إلى دولة طبيعية، لا بل إلى «لبنان الجديد». فالتحوُّلات الكبرى التي شهدتها المنطقة، ومن بينها «بلاد الأزر»، لم يكن أحد ليتخيَّـلها: عملية «طوفان الأقصى» وما أحدثته من زلزال، ارتدت حرباً إسرائيلية للقضاء على «حركة حماس» في غزة، كانت نتيجتها على مدى 15 شهراً عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى المدنيين والمفقودين وتحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة؛ «حرب الإسناد» التي أعلنها «حزب الله» من جنوب لبنان انتهت إلى توجيه ضربة قاصمة لـ«الحزب» بتصفية قيادته من أعلى الهرم إلى أسفله، وتدمير معظم ترسانته العسكرية، وغزو بري لبلدات على طول الشريط الحدودي الجنوبي وتسويتها بالأرض، وإلحاق الدمار بكثير من القرى الشيعية وتهجير أهلها، قبل أن يصل لبنان، وفعلياً «حزب الله»، وإسرائيل بوساطة أمريكية إلى اتفاق على وقف لإطلاق النار يتم خلاله تنفيذ دقيق للقرار الدولي 1701، وهو ما شكّل – وفق مراقبين – صك استسلام من قبل «الحزب» الذي عليه أن يُسلِّم سلاحه «بدءاً من جنوب الليطاني»؛ سقوط نظام بشار الأسد في سوريا بعد 13 عاماً من ثورة شعب دفع ثمناً باهظاً قتلاً وتشريداً وتهجيراً بالملايين إلى بقاع الأرض. تغيَّرت المعادلة بهزيمة إيران في سوريا، وقطع طريق طهران ـ بيروت، وتراجع نفوذ روسيا التي بتدخلها العسكري في أيلول/سبتمبر 2015 حمت النظام من دون أن تستطيع فعل ذلك مرة ثانية في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، حين بدأت «هيئة تحرير الشام» وفصائل حليفة لها في إدلب عملية عسكرية ضد قوات النظام وحلفائه حملت اسم «ردع العدوان» بدأت من ريف حلب، ووصلت إلى قلب العاصمة مُنهية في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 حُكْمَ ما يزيد على نصف قرن لعائلة الأسد.
لا يزال من المبكر الحكم على ما ستؤول إليه «سوريا الجديدة»، ومدى القدرة على أن تكون مستقرة، لكن سقوط النظام أنهى حلم تمدُّد إيران ووصولها إلى شواطئ المتوسط وإلى حدود إسرائيل لإمساكها بخيوط اللعبة في المنطقة لتكون في موقع الأكثر أهلية لدور «الشرطي» وقت التفاوض مع الأمريكي.
موازين القوى في الشرق الأوسط
تبدَّلت بين ليلة وضحاها موازين القوى في الشرق الأوسط بفعل زلزال 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 والذي لا تزال دوله في قلب التحولات والارتدادات التي قد تطول إلى زمن بعيد. في «لبنان الجديد» الآتي من رحم تلك التحوُّلات والارتدادات، تمَّ انتخاب رئيس للجمهورية بعد سنتين وشهرين من الفراغ في سدّة الرئاسة، ليس بمرشح «حزب الله»، وتمَّ تكليف رئيس حكومة بخلاف ما يبتغيه «الثنائي الشيعي» (حزب الله وحركة أمل). في واقع الحال، أتى رئيس الجمهورية وهو قائد الجيش العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة المكلّف القاضي نواف سلام الذي كان يشغل منصب رئيس محكمة العدل الدولية بغطاء إقليمي – دولي، من خارج ما كانت تطمح إليه الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان. من هنا، يشعر اللبنانيون الذين نزلوا إلى الشوارع في 17 تشرين الأول 2019، أن ثورتهم، التي قُمعت حينها قد أثمرت اليوم، بعد سنوات من انهيار اقتصادي ـ اجتماعي – مالي ومعاناة ويأس وتحلل الدولة ومؤسساتها.
لا يملك اللبنانيون اليوم سوى الحلم. جاء خطاب القَسَم لرئيس الجمهورية ليعكس آمال الغالبية الشعبية الساحقة التي تريد دولة طبيعية حديثة ذات تطلعات مستقبلية، تبسط سيادتها على كل أراضيها، ولا سلاح فيها غير سلاح الشرعية، يكون فيها قضاء نزيه ويكون مواطنوها جميعهم متساوون تحت القانون، لهم كرامتهم وحريتهم، لديهم حقوق وعليهم واجبات، دولة يحكمها الدستور لا موازين القوة، تُؤمِن بنهاية الكيان وهوية وانتماء لبنان العربي، لا تدخل في صراعات المحاور القاتلة. يتم النظر إلى خطاب رئيس الجمهورية على انه عالي السقف، كبير في طموحاته؛ وكذلك كلمة رئيس الحكومة المكلّف بعد الاستشارات النيابية الملزمة. ومن هنا تأتي المخاوف من الخيبات.
التحديات كبيرة، بدءاً من ضمان تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي ينتهي في 26 كانون الثاني/يناير، أي بعد أيام قليلة، ومدى إنجاز الجيش اللبناني لانتشاره في جنوب الليطاني، وتفكيك ما تبقى من ترسانة «حزب الله» وانسحاب عناصره كلياً من هناك، ومدى التزام إسرائيل بانسحاب جيشها من داخل الأراضي اللبنانية إلى الحدود، كمرحلة أولى بغية تطبيق لكامل البنود الـ13 التي ينصُّ عليها الاتفاق الذى يُشكِّل الآلية التنفيذية لقرار مجلس الأمن 1701. وستكون عملية ضبط الحدود الشرقية ـ الشمالية، ولا سيما لجهة تهريب السلاح، هي الأخرى قيد الامتحان.
الورشة الداخلية صعبة بدءاً من تركيبة الحكومة والمهمات الملقاة على عاتقها، وفي مقدمها إجراء الإصلاحات المطلوبة دولياً من أجل مساعدة لبنان مالياً واقتصاديا وإنمائياً، فضلاً عن تحدّي إعادة إعمار ما هدَّمته آلة الحرب الإسرائيلية وشفافية هذه العملية التي ستأخذ سنوات طويلة، حتى ولو كانت وتيرتها سريعة.
القرار السياسي أولاً وأخيراً
هل يمكن أن ينقلب الحال لبنانياً بين ليلة وضحاها؟ المسألة رهن القرار السياسي أولاً وأخيراً، ومدى قدرة اللبنانيين على تلقّف الفرصة التاريخية المتاحة أمامهم بفعل الوصاية الدولية على «بلاد الأرز» بعد سنوات من الانكفاء عنه عربياً ودولياً. فـ»لبنان الجديد» لا يمكن ولادته من دون حيوية لبنانية داخلية تُعيد إنتاج طبقة سياسية على مفاهيم وطنية تنطلق أولاً وأخيراً من «وثيقة الوفاق الوطني» التي أنهت الحرب اللبنانية وفتحت الباب أمام تطوير النظام اللبناني، عبر إصلاحات تُرجمت في تعديلات دستورية بقيت بغالبيتها دون تطبيق. الموعد المنتظر لمثل هذا الامتحان هو في ربيع 2026، الذي سيشهد انتخابات نيابية ستُجرى على ضوء قانون انتخابات جديد يعكس صحة التمثيل السياسي والوطني ويوائم روحية الدستور، ولا يكون على قياس مصالح جماعات محددة. هذا هو على الأقل الأمل لدى اللبنانيين، في حال لم يحصل «انقلاب مضاد» نظراً إلى الاقتناع السائد بأن الطبقة التي كانت متحكمة بالحكم وبالدولة ما زالت قوية، وإن كانت رياح التحولات الكبرى في المنطقة قد أضعفتها.
كان طبيعياً أن يظهر «الثنائي الشيعي» كماً من الغضب بعد استحقاقين دستوريين بدا انه خارج التأثير عليهما للمرة الأولى منذ سنوات. بالطبع ليس من توجه لدى أحد من المكونات السياسية في لبنان اقصاد الطائفة الشيعية ولا المس بالميثاقية التي يفسرها «الثنائي» وتحديداً «حزب الله» على غير روحيتها الحقيقية. في الأساس، ليس ثمة طائفة قادرة على إلغاء طائفة أخرى في لبنان، فالدستور واضح في بنوده حول المناصفة بين المسيحيين والمسلمين وجرت العادة على الدوام في المثالثة ضمن المناصفة بين السنة والشيعة والموارنة. ما جرى ان «الثنائي الشيعي» وجد أنه لا يملك اليد العليا سياسياً. هو سبق أن تفرد سياسياً بحكم البلاد حين منع عام 2011 تسمية سعد الحريري لرئاسة مجلس الوزراء رغم أنه كان زعيم الأكثرية البرلمانية. يومها، وفي ظل اختلال موازين القوى الإقليمية، انقلب «محور إيران» على تفاهمات «اتفاق الدوحة». وساهم يومها نجيب ميقاتي ووليد جنبلاط في الانقلاب على الحريري.
على ان الحسابات الواقعية وحسابات الدول ولاسيما اللجنة الخماسية التي تشكل المظلة الإقليمية والدولية للبنان تتطلب دون شك التوصل الى تفاهمات تسمح بانطلاقة العهد من دون عقبات وتعطيل وتسمح بتشكيل حكومة قادر على الإنتاج وفيها مشاركة من الجميع أو على الأقل من الاطياف السياسية. رغم كل الاعتراضات التي يسجلها «الثنائي الشيعي»، فأنه الانطباع السائد أنه سيشارك في الحكومة. ستفرض طبيعة الحكومة الأشخاص الذين سيتم اختيارهم، لكن الأسماء الشيعية لن تكون بعيداً عن قبول «الثنائي» فيها، ولاسيما أنه لا يزال يحظى بالتمثيل الشيعي في البرلمان.
استثمار نتائج العدوان
ثمة اقتناع أن «حركة أمل» لا تستطيع آن تعيش خارج السلطة مهما كانت الظروف. وبالأمس خرج أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم ليعلن «ان أحداً لن يتمكن من استثمار نتائج العدوان في السياسة الداخلية، فالمسار السياسي مُنفصل عن وضع المقاومة. مساهمتنا كحزب الله وحركة أمل هي التي أدّت إلى انتخاب الرئيس بالتوافق، ولا يستطيع أحد إقصاءنا من المشاركة السياسية الفاعلة والمؤثرة في البلد، فنحن مُكوّن أساسي في تركيبة لبنان ونهضته، بعض البلهونيات في إبراز إبعادنا عن المسرح هي فُقّاعات ستظهر لاحقًا.» لكن كلام قاسم على أن « الاتفاق حصرًا هو في جنوب نهر الليطاني» في كلمته المسجلة في المؤتمر الدولي الثالث عشر «غزة رمز المقاومة» والذي عقد في ايران، يدل على الحاجة الى انقاذ ماء الوجه أمام جمهور» المحور» قاطبة من لبنان إلى العراق واليمن، إذ أنه يدرك تمام الادراك أن القرار الدولي واتفاق الية التنفيذ يؤكدان بشكل جلي على وجود سلاح الشرعية وحدها على كامل الأراضي اللبنانية. ذلك الادراك واليقين ترجمه قاسم في قوله في المقطع نفسه من الكلمة بأن» خُطط الاستفادة من المقاومة وسلاحها يتم في نقاش ضمن الاستراتيجية الدفاعية وبالحوار من ضمن الحفاظ على قوة لبنان وسيادة لبنان واستقلاله.»
ما تحاوله القوى الحيّة التي كانت في موقع المعارضة، سواء النخبوية أو السياسية أو الشعبية، هو الانطلاق عبر أُطر سياسية أو تنظيمية. هي ترى أن الفرصة سانحة أمامها للعمل. ففي غضون أسابيع قليلة، بدأت تنشأ تجمعات سياسية، وإنْ كانت ما زالت في إطار نخبويّ، إلا أنها تُشكِّل بدايات لا بدَّ منها. أطلقت كتلة «نحو الإنقاذ» وثيقة سياسية وطنية، عنوانها: «لبنان وطن نهائي، عربي الهوية»، في محاولة لبناء تحالف يواجه المرحلة المقبلة في الجنوب والبقاع والضاحية وبيروت والشمال والجبل. محرِّك تلك الكتلة مثقفون شيعة كانوا، حتى الأمس القريب، يُصنّفون على أنهم «شيعة السفارات» لمعارضتهم سياسة «الثنائي الشيعي»، ولا سيما تفرُّد «حزب الله» بقرار السلم والحرب، وإدخاله لبنان في «حروب ما فوق لبنانية». ومما تضمنته الوثيقة السياسية التي تلاها الصحافي محمد بركات أننا «جئنا لنجتمع ونُعلن أن البلاد ما عادت تحتمل السكوت. ولولا أن سكتنا، فلأنهم دعونا إلى تحسس رقابنا، ولولا أن بعضنا خاف وابتلع لسانه ولولا أن كثيرين أرعبتهم دماء من سبقونا إلى الاعتراض… ولولا ولولا ولولا… فربما لما وصلنا إلى هنا(…). لهذا، على اللبنانيين أن يجتمعوا على كلمة سواء، وهي أن مشاريع الغلبة كلها أودت بنا إلى المهالك. ولن تستطيع طائفة، مهما بلغت قوتها، أو دولة مهما كانت طموحاتها، أو حزب مهما كثر عديده، أن يحكم لبنان بالغلبة».
كما أطلق «المنبر الوطني للإنقاذ» «نداءً وطنياً» تحت عنوان «لا حل إلاّ بالدولة». وعرَّف عن نفسه أنه «ليس حزباً ولا يطمح إلى تكوين حزب، بل هو إطار يضم في صفوفه طيفاً متنوعاً من الناشطين والشخصيات الثقافية والفنية والنقابية، وأحزاباً وتيارات وحركات سياسية من كل الأطياف، يجتمعون على مشروع الدولة». وقال أحد أعضائه د. علي مراد، وهو من المثقفين الشيعة الذين كانوا يُخوَّنون أيضاً بفعل معارضتهم لـ«الثنائي»: «لبنان يمر حالياً بلحظة تاريخية فارقة وتحديات تأسيسية غير مسبوقة لا تحتمل ترف إضاعة الوقت(…) «نحن اليوم مجتمعون من أجل وضع حد لمسار التعطيل والشعور بفائض القوة وإخضاع اللبنانيين بالترغيب والترهيب والتخوين، وتعطيل المسار الديمقراطي، وهو مسار هيمن لعقود».
وخلال أسابيع قليلة، سيكون هناك انطلاقة لتجمع سياسي تحت عنوان «الدستور أولا» وهو تجمع عابر للطوائف والمناطق والانتماءات، هدفه العمل على «حماية الدستور» وتطبيقه بكامل بنوده، وليس بشكل جزئي وفق مصالح هذا الطرف أو ذاك. ويطمح الى الانتقال من المعارضة ليكون فاعلاً في السياسة ومشاركاً فيها، وألاَّ يكتفي بواقع نخبوي، كما كانت حال الأطر التي ينبق منها كـ»سيدة الجيل» والمبادرة الوطنية» والمجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان».
سيشهد لبنان بلا شك تحرُّك أوسع للمجتمع المدني، وستكون فرصاً أكبر للتوّاقين إلى التغيير. فرغم الضربة التي تلقتها «ثورة 17 تشرين»، فقد استطاع 13 نائباً أن يصلوا إلى برلمان 2022 بقوة الحالة الاعتراضية. لن يتعلق الأمر في انتخابات 2026 بطائفة دون أخرى أو حزب دون أخر أو منطقة دون أخرى. يتوقع أن تطال موجة التغيير مختلف المناطق والطوائف، وإنْ كان التحدي الأكبر هو ضمن الطائفة الشيعية التي نجح «الثنائي الشيعي»، بفعل عوامل كثيرة، في ضمان مقاعدها الـ 27 في البرلمان، بما حصر به التمثيل الشعبي.
سيكون على القوى المعارضة التي تعتبر أن نضالاتها على مرّ السنوات الماضية ساهمت في «التحول الكبير» أن تنقل اليوم إلى صفوف الموالاة، وهي ليست مسألة سهلة. فالوجود في كنف السلطة فيه الكثير من المطبات والنظرة الواقعية بعيداً عن الاحلام الوردية، وفيه الكثير من القرارات الصعبة غير الشعبوية إذا كان للدولة أن تستقيم، وفيه احتمالات الفشل. فعادة ما يكون للمعارضة حرية أكبر في الحركة ما دامت خارج المسؤوليات والأحمال الثقيلة. في الحقيقة، التنظير أمر سهل، والعمل أمر شاق. ولكن رغم ذلك، ثمة أمل جديد في لبنان، وثمة فرصة رغم كل القلق والخوف من الخبيات.