مقالات
” عصمت سيف الدولة ” و ” نظرية الثورة العربية “
نشر هذا الموضوع عن " د: عصمت " في مو قع " أصوات أونلاين "
” عصمت سيف الدولة ” و ” نظرية الثورة العربية ”
( .. هذا مفكر من طراز رفيع ، جمع بين فصاحة اللغة وجمالها ، وخوض غِمّار معارك فكرية جديدة ومُتجددة ، وللجمع بين الاثنين بدا ، مُغرداً وحيداً ، مِقدّاماً ورائداً …
*****
دخل معارك لا تُعد ولا تُحصى ، خرج في الكثير منها مُنتصراً ، وفي القليل منها مُنهزماً ، وفي كلا الحالتين ظل قوياً ، وغاضباً ، وشامخاً ، غير أن الإبتسامة لا تعرف وجه هذا الصعيدي الصلب إلاّ في حالة النصر الْمُبِين ، فهو لا يعرف أنصاف الحلول ، ولا يقبل بعطايا الأفراد أو الحكومات أو أي سلطة ، حتى لو كانت تلك السلطة ، هي القريبة الى فكره وفلسفته ومنهجه في الحياة !!
******
عالم مُترامٍي من الشجاعة والفكر والنضال السياسي القومي ، الذي لا يّرضىٌ فيه إلاّ أن يكون قائداً ووحيداً ومُتفرداً …
*****
ثلاثة مشاهد ، أو ثلاثة صور ، أو ثلاثة مواقف ، جمعت بيني وبين هذا الصعيدي ابن قرية ” الهمامية ” التابعة لمركز البداري بمحافظة أسيوط والمولود في أحد بيوتها الحنونة في العشرين من أغسطس من عام ١٩٢٣ …
******
كان الموقف الأول قد جرت وقائعه في واحدة من أهم مكتبات وسط البلد ، في قلب القاهرة ، وعند مُنتصف الستينيات من القرن الماضي ، كُنتُ أبحث عن كتاب له عنوانه ” أُسُسْ الإشتراكية العربية ” سمعت عنه تحت تأثير كتابات نقدية ماركسية ، مُتهمة إياه بأنه جاء مُخالفاً لٍمّ جاء في ” ميثاق العمل الوطني ” وثيقة “عبدالناصر ” الأهم ، والتي أكد فيها بأن ” الإشتراكية العلمية ” هي المنهاج الصحيح للتقدم …
******
دخل الدكتور” عصمت ” الى تلك المكتبة موجهاً سؤالاً بدا حاسماً لصاحبها ومديرها ، عن مُعدل توزيع كتابه !!
وعندما سمع عن تلك الأرقام المتواضعة لتوزيع الكتاب ، خرج غاضباً لا يلوي عَلى شيئ ، ولم يترك لصاحب المكتبة الشهير أن يُفسر له ما نطق به !!
عرفت وقتها أن ذلك الزائر العابر والخاطف ، هو الدكتور ” عصمت سيف الدولة ” لا سواه ، مُبدياً أسفاً وندماً عَلى ضياع فرصة معرفة هذا المفكر الكبير ….
*******
غير أن تلك الفرصة لم تأتي إلاّ بعد اثنى عشر عاماً بالتمام والكمال ، وفي ظروف لا يتوقعها أحد !!
كان اللقاء العابر في محراب بيت العدالة ، في محكمة باب الخلق ، وفي تلك القاعة التي شهدت محاكمة ” أنور السادات ” في قضية اغتيال وزير المالية الوفدي ” أمين عثمان ” والذي وقع في ” غلطة عمره ” عندما وصف علاقة مصر ببريطانيا ، دولة الإحتلال ، بأنها ” زواج كاثوليكي ” لا يعرف الإنفصال أوالطلاق !!
كان الثمن أن تّلقّىّ الرجل بضع رصاصات في صدره أردته قتيلاً في وضح النهار ، في ذات يوم عاصف من سنوات الأربعينيات من القرن الفائت …
كنت وقتها من ضمن مُعتقلي اليسار المصري اثر الإنتفاضة الشعبية في يناير من عام ١٩٧٧ ، وكان الدكتور ” عصمت سيف الدولة ” عَلى رأس هيئة الدفاع عن معتقلي حزب التجمع وباقي التيارات اليسارية والقومية الأخرى ، وكان ملف قضيتي بين يديه !!
كُنتُ أتأمل ملامح هذا المحامي الفّذ عندما بدأ في الترافع عني أو عن غيري من الزملاء ، وفي الوقت نفسه كنت أُراجع مع نفسي الكثير مما كتبه ، وقرأته !!
غير أن المُهم ، والذي لا أنساه عمري ، ذلك الحوار الرائع الذي دار بين الدكتور ” عصمت ” وجاري في ذات القفص الذي يُضمُنا !!!
كنت واقفاً بجوار الأستاذ ” محمد يوسف الجندي ” مدير ” دار الثقافة الجديدة ” مُتهّماً بعضوية اللجنة المركزية للحزب ” الشيوعي المصري ” والذي لم يمّرّ علي عودته الجديدة سوى عامان أو ثلاثة أعوام …..
كان الحوار بين الرجلين يدور حول ادارة الدكتور ” عصمت ” والأستاذ ” محمد الجندي ” لدار الثقافة الجديدة ، التي تُعرف بأنها أهم دار يسارية وماركسية في مصر ، وربما في الشرق كله ، وهو من هو !!
المفكر القومي الكبير ، دائم الإشتباك مع الماركسيين ، دائمي الشغب معه !!
لم يجد الأستاذ “محمد ” ابن ” يوسف الجندي ” أحد أبطال ثورة ١٩ المجيدة ، وصاحب ” جمهورية زفتى ” لم يجد من بين رفاقه في الحزب الشيوعي ، رَجُلاً مؤتمناً ، وكفؤاً ، لإدارة الدار ، سوى الدكتور ” عصمت ” ذلك المُقاتل الصلب ، والخصم العنيد والموضوعي للفكر الماركسي !!
أي رجال هؤلاء !!
هُمْ عَلى درجة مُذهلة من الصدق والثقافة والإيمان بوحدة الوطن مهما اختلفت الإجتهادات والرؤىّ !!
*******
المشهد الثالث ، أو اللقاء الأخير ، كان في بلد عربي شقيق ، وعند مُنتصف الثمانينيات ، اذ قرأت إعلاناً صغيراً في صدر الصفحة الأولى للصحف الثلاثة الرئيسية في هذا البلد عن مُحاضرة للدكتور ” عصمت سيف الدولة ” تُشرف عليها اللجنة الثقافية بالنادي الرئيسي في تلك الإمارة الخليجية …
******
ذهبت قبل الموعد المُحدد للمحاضرة بنحو ساعة ، وهالني ما رأيت !!
فالقاعة الكبيرة التي تتسع لأكثر من خمسة آلاف فرد ، غُصت عن آخرها !!
لا موضع لقدم ، حتى أن
مسئولي هذا النادي فكروا في نقل محاضرة الدكتور ” عصمت ” الى الملعب الرئيسي لكرة القدم ، غير أنهم امتثلوا لقراره بالبقاء في القاعة المُحددة …
******
بدأت محاضرة الدكتور” عصمت ” وبدا الحضور ، كل الحضور ، كأن عَلى رؤوسهم الطير ، انتباه شديد ، وصمت رهيب ، حتى أنني تيقنت يومها ما كان يُقال عن الدكتور” عصمت ” بأن شهرته في أقطار الوطن العربي من المحيط الى الخليج تفوق ، بعشرات المرات معرفة أهل مصر بهذا المفكر الكبير ذائع الصيت ، وبدا صحيحاً ذلك المثل العربي الأثير الذي يقول :
” أن مُطرب الحي لا يُطرب ” و ” لا كرامة لنبي في وطنه ” !!
*******
كان الدكتور ” عصمت ” الحاصل عَلى ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة عام ١٩٤٦، ونال درجة الدكتوراة في القانون عام ١٩٥٧ من جامعة باريس ، قد سبقته مؤلفاته في الفكر القومي والتشريع والقانون ، منها ” نظرية الدفاع الشرعي في القانون المصري المُقارن ” ، وهي رسالته للدكتوراه ، وهي بالفرنسية ، وأسس الوحدة العربية ، والنظام النيابي ومشكلة الديمقراطية ، والأستبداد الديمقراطي ، ورأسماليون وطنيون ورأسمالية خائنة ، و عن الناصريين واليهم ، والمحددات الموضوعية لدور مصر في الوطن العربي ” وغيرها وغيرها …
*****
مفكر قومي كبير غزير الإنتاج ، لا ينافسه في تاريخ الفكر القومي ، وطوال القرن العشرين ، سوى ” ساطع الحصري ” المفكر القومي العربي الأول ، والناطق الرسمي باسم العروبة في العصر الحديث ، غير أن واحداً من مؤلفات الدكتور ” عصمت ” حظيت بخصوصية فريدة لم ينالها واحد من مفكري المدرسة والإتجاه القومي العربي ، بما فيهم ” أبو خالدون ، ساطع الحصري ” فقد اتفقت قيادتي حزب البعث العربي ، في العراق ، زمن صدام حسين ، وفي سوريا خلال عهد حافظ الأسد ، أن يجعلا كتاب ” نظرية الثورة العربية ” وهو مؤلف من سبعة أجزاء ، النظرية والفلسفة الرسمية لنظامي الحكم ، وفلسفة الحزب ، رغم معارك الدم ، وحروب الثأر بين فرعي الحزب الواحد ، بل أنه من المُدهش حقاً ، أن صدام حسين وغريمه حافظ الأسد ، يأخذا هذا القرار الحزبي الخطير ، وفي توقيت واحد ، خلال حياة ” ميشيل عفلق ” مؤسس الحزب التاريخي ، وفيلسوفه طوال أكثر من نصف قرن ، فمؤلف الدكتور ” عصمت ” صدر عن دار المسيرة البيروتية في العام ١٩٧٢، فيما انتقل ” ميشيل عفلق ” الى رحمة الله في صيف عام ١٩٨٩ !!
*******
فما هي تلك الفلسفة التي أقام عليها الدكتور ” عصمت ” نظريته في فهم العروبة والوحدة العربية والعمل القومي العربي ؟
طمح ” سيف الدولة ” الى وضع ” نظرية ” ل ” الحركة العربية الواحدة ” التي دعا اليها جمال عبدالناصر سنة ١٩٦٣، اثر فشل محادثات الوحدة الثلاثية بين قادة مصر والعراق وسوريا، للتغلب عَلى الإختلافات الحزبية بين الأُطر السياسية والحزبية العربية ذات الإنتماء القومي ، وقد ظهرت فيما بعد دعوته الى قيام تنظيم ” حركة أنصار الطليعة العربية ” كما هو مُّبِيّنْ في ما أسماه ” بيان طارق ” الصادر عنه وممهوراً باسمه في سنة ١٩٦٨ ، وكان يتصور أن الرئيس عبدالناصر سيتبنىّ تصوراته لهذا التنظيم ، وفكرته عن الإشتراكية العربية عندما يُعيد النظر في التكوين التنظيمي للإتحاد الإشتراكي العربي ، ومراجعة ” الميثاق ” كما هو مأمول في سنة ١٩٧٠ ….
******
كانت نقطة انطلاق الدكتور ” عصمت ” في بناء هذه الفلسفة ما يسميه ” جدل الانسان ” والتي تتجلىّ في تطور الأُمّمّ من خلال المجتمع عَلى شكل إرساء الديمقراطية ، مما يعني الإتجاه الى المزيد من ” الحرية ” التي تعني لديه إرساء أسس ثابتة لتغيرات اقتصادية واجتماعية جذرية تؤدي بالضرورة الى قيام ” الأشتراكية ” ليخلص الى الإستنتاج التالي :
” وبهذا يكون جدل الإنسان قد أرسى الأشتراكية عَلى أساسين : الديمقراطية والحريّة ، بشرط قيامهما في إطار عربي قومي ، لا قُطري أو جزئي ” ويخلص الى أنه ” لابد طبقاً لجدل الإنسان ، من أن نبدأ من حيث نحن ، وظروفنا نحن ، ولذلك تستقيم لنا من واقع قراءاتنا لظروفنا غايات ثلاث : الحرية والوحدة والإشتراكية “
*****
وهكذا تمضي اجتهادات الدكتور ” عصمت سيف الدولة ” من واقع حالم لأمة عربية لا يؤمن حكامها وقادتها بفكرة الوحدة العربية الحقيقية إلاّ القليل والنادر !!
بل أن من يطلقون عَلى أنفسهم قادة وحدويون ، يتركون تلك الأحلام جانباً عند امتلاكهم سلطة إتخاذ القرار في أقطارهم ، وتصبح قصور الرئاسة حصنهم الحصين بين تلك الأحلام ، وحمايتهم من ذلك الشعب الذي يطمح في تحقيق تلك الأحلام !!!
******
بيد أنني أرىّ في ثلاثة أعمال أدبية وفكرية من بين أكثر من عشرين كتاباً تركها لنا هذا المفكر الكبير ، قد بلغ فيها الدكتور ” سيف الدولة ” قمة الثراء الفكري والقومي ، وهي : ” مذكرات قرية ، الصادر في القاهرة عن دار الهلال المصرية في عام ١٩٩٤ في جزئين ، وقبل انتقاله الى رحاب الله بعامين حيث توفي في ٣٠ مارس ١٩٩٦ ، وكتاب ” هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟ ” الصادر في بيروت عن دار المسيرة في سنة ١٩٧٧، وكتابه الرائع ” عن العروبة والإسلام ” والذي أصدره مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام ١٩٨٨” وفي ظني أن أهمية الكُتب الثلاثة ترجع الى أنها ناقشت مشكلات ذات طابع واقعي وإشكالي راهن ، وتعتمد عَلى أسس موضوعية ، ولذلك تطرح رؤية شاملة وراسخة ، تصل الى حد الكّمّال !!
*****
ففي اطلالة سريعة ، على كلاً منهم ، يعطينا الدليل عَلى ما أقصده ، ففي ” مُذكرات قرية ” يكاد يكون هذا النص بمثابة دراسة رائعة وجميلة ومثيرة لقرية ” الهمامية ” مسقط رأس الدكتور ” عصمت ” فهي السيرة الذاتية له ، وخصوصاً في مرحلة الطفولة والصبا والشباب خلال سنوات الأربعينيات من القرن الماضي ، لكنها إبحار رائع ومُدهش في تاريخ مصر والإنسانية في مختلف العصور ، متوقفاً عند عشرات الوقائع الانسانية والتاريخية ، حتى أنني لا أُبالغ اذا قُلتْ أن تلك المذكرات ، وهي أقرب الى الرواية ، قد جمعت بين جماليات اللغة وبؤس الواقع ، عند ” طه حسين ” في رائعته ” الأيام ” وتحديداً في جزءها الأول ، ورواية توفيق الحكيم ” يوميات نائب في الأرياف ” في واقعيتها المريرة ولغتها الساخرة والساحرة ، فقد اتخذ الدكتور ” عصمت ” من السرد الفني أسلوباً لتسجيل الحدث ، وذلك في إطار فصول مُتتابعة تكاد من فرط جمالها أن لا تتركها ولو لبضع دقائق !!
*****
أما كتابه ” هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟ ” فهو يناقش بلغة سهلة واضحة ، تلك الإشكالية التي ما فتأ أعداء ثورة يوليو يوجهونها سهاماً الى صدر
قائدها ، باعتبارها كعب آخيل في تجربته الرائدة ، وهو الأمر الذي يقع فيه أيضاً ، وللأسف الشديد ، الكثير من أبناء الثورة ذاتها !!
الدكتور ” عصمت ” وخلال أربعة عّشرّ فصلاً يُفند تلك الأكذوبة التي تتهم ” ناصر” بإجهاض تلك التجربة الديمقراطية السابقة لسنة ١٩٥٢ ، حتى أنه يُصدٍرْ كتابه بتلك الكلمات المنقولة عن الرئيس عبدالناصر ، والتي تقول : ” هناك اتصال عضوي بين الإشتراكية والديمقراطية ، حتى ليّصدُق القول بأن الإشتراكية هي ديمقراطية الإقتصاد ، كما أن الديمقراطية هي إشتراكية السياسة “
وهو قول يراه الدكتور ” عصمت ” أساساً موضوعياً أقام عليه هذا البحث الرائد بكل المقاييس ، فقد استخدم مخزونه الثقافي الهائل ، وخبرته القانونية والدستورية الكبيرة في مناقشة العشرات من القضايا مثل أسطورة المُستبد العادل ، والسلطة ، كل السلطة للشعب ، وتحرير الفلاحين ، والنقد والنقد الذاتي ، غير أنه يستخلص الدروس المُرة لمن يريد أن يتعلم !!
******
وبنفس المنهج يقدم ” سيف الدولة ” أطروحته الفذة ” عن العروبة والإسلام ” فمن خلال ثلاثة فصول وهي :
” الظالمون ، والمنافقون ،
والجواب ” وعبر خمسمائة صفحة من القطع المتوسط ، يُناقش أكثر من خمسين قضية هامة وخطيرة في حياة العرب والإسلام والمسلمين ، ويعلن وبلغة واضحة لا ينقصها التحدي في مُفتتح كتابه تلك الكلمات الحاسمة التي تحدد الهدف من عمله الخطير :
” في الوطن العربي طائفتان اختلفتا فاتفقتا ، طائفة تناهض الإسلام بالعروبة وطائفة تناهض العروبة بالإسلام ، فهما مُختلفتان ، وتجهل كلتاهما العروبة والإسلام كليهما فهما متفقتان ، وأنهما لتثيران في الوطن العربي عاصفة غبراء من الجدل تكاد تُضِل الشعب العربي المسلم عن سبيله القويم ، وانهما لتحرضان الشباب العربي عَلى معارك نكراء تكاد تلهيه عن معارك تحرير أمته ” !!
******
وهكذا يمضي ذلك المقاتل الصلب ، والمفكر الكبير في كل معاركه حتى النفس الأخير من حياته ، غير هّيّابْ من مخاطر ، أو مُتراجع عن حرب ضارية قرر خوضها ، أو مُتصالحاً مع عدو يحتل أرضه ، أو قابلاً بحلول وسط حتى مع بعض حلفائه ، رافضاً كل صور الهوان لأمته ، أو الحّطْ من تاريخها ، أو إغتيال أحلام الأجيال الصاعدة من شبابها !! …..
*****
رحمك الله أيها الفارس الكبير …)