ثقافة وفنونمقالات
كيف يمكن للفن أن يصنع الحياة والنصر أيضا؟- الروائية كفى الزعبي
الروائية كفى الزعبي
كيف يمكن للفن أن يصنع الحياة والنصر أيضا؟
الروائية كفى الزعبي
في ٩ آب من العام ١٩٤٢ صدحت الموسيقى من مكبّرات الصوت المنتشرة في مدينة لينينغراد المحاصرة من قبل القوات النازية الألمانية. وصدحت أيضا من مكبرات الصوت المنتصبة باتّجاه الأعداء على تخوم المدينة. كان بثّاً حيّاً من قاعة الفيلهارمونيا الكبيرة في لينينغراد.
“عند سماعي صوت الموسيقى الآتية من المدينة العابقة بالموت فهمت أنّنا سوف ننهزم”. هذا ما صرح به أحد الجنود الألمان النازيين، الذين كانوا يحاصرون المدينة.
وهذه الموسيقى هي السمفونية السابعة للموسيقار السوفييتي العالمي تشيستوكوفيتش، التي صدحت في 9 آب من العام ١٩٤٢، في الوقت الذي كانت فيه القوات النازيّة التي تحاصر المدينة، تظنّ أنّ الحياة في لينينغراد أصبحت شبه معدومة.
فما قصة هذه السمفونية التي وجدت فيها السلطة السوفيتية أهمية استراتيجية في المعركة؟
في 16 أيلول/سبتمبر 1941 قال دميتري دميتريفيتش شوستاكوفيتش في حديثٍ على الراديو: “منذ ساعة فقط انتهيت من تدوين جزءين من مؤلّف سيمفوني كبير. إذا تمكّنت من كتابة هذا العمل بشكلٍ جيّد، إذا انتهيت من تدوين الجزءين الثالث والرابع، عندها يمكن تسمية هذا العمل “السيمفونية السابعة”. لماذا أنبئكم بهذا الآن؟ حتى يعلم المستمعون أنّ الحياة في مدينتنا مستمرّة. كلّ واحد منّا الآن يخدم في وحدته الدفاعية… أيّها الموسيقيّون السوفيات، أحبّائي، رفاقي في السلاح، أصدقائي! تذكروا أنّ خطراً عظيماً يتربّص بالفنّ والإبداع عندنا. سوف ندافع عن موسيقانا، سوف نعمل بشرفٍ وصدقٍ وتفان”. في ذلك اليوم كان قد مرّ حوالي الشهر على البداية الفعلية للحصار، وثمانية أيام على قطع قنوات الإتصال بين لينينغراد وباقي الإتحاد السوفياتي بشكل نهائي. خلال أيّام، وفي فترات الإستراحة من خدمته في الدفاع المدني كرجل إطفاء في لينينغراد، كتب شوستاكوفيتش الحركة الثالثة.
آدركت السلطة السوفيتية أهمية هذه الموسيقى فقامت قبل نهاية عام 1941 بإجلاء شوستاكوفيتش وعائلته إلى مدينة كويبيشيف (سمارا حاليّاً) حيث كتب الحركة الرابعة والأخيرة من سيمفونيّته.
في أيار 1942 وصلت المدوّنة الموسيقية للسيمفونية إلى لينينغراد على متن طائرة حربية سوفياتيّة. ويجدر القول إن الطيار الذي حمل مخطوطة النوتات تعرض لقصف طيارته وجرج، لكنه أصر على توصيل النوتات للمدينة المحاصرة.
أدّت السيمفونية السابعة لشوستاكوفيتش أوركسترا إذاعة لينينغراد السيمفونية بقيادة المايسترو كارل إلياسبرغ. وكانت الأوركسترا فقدت أكثر من سبعين عازفاً ماتوا من البرد والجوع أو على الجبهة خلال العام الأول من الحصار، حتى أصبح عددهم مع بداية ربيع 1942 خمسة عشر عازفاً من أصل تسعين. لهذا، وفي بداية صيف العام 1942 وصلت أوامر غريبة من القيادة العليا ( من ستالين) إلى جبهات الدفاع عن لينينغراد: البحث عن الجنود والضبّاط الموسيقيين واستدعاؤهم من الجبهة إلى قلب المدينة المحاصرة للضرورة القصوى.
وهذه الضرورة القصوى كانت عزف الموسيقى!
إنه التاسع من آب/أغسطس 1942.
الساعة السابعة إلا خمس دقائق مساءً. قاعة الفيلهارمونيا الكبيرة في لينينغراد المحاصَرة ممتلئة. يُقرع الجرس الأخير آذناً ببداية الحفل. الثريّات الكبيرة في القاعة تضاء للمرة الأولى منذ ما يقارب العام من بداية الحصار، ما يشكّل تحدّياً وقحاً للطيران النازي، وخطراً كبيراً على روّاد الفيلهارمونيا وأعضاء الأوركسترا السيمفونية، فضلاً عن أن التيار الكهربائي قد قُطِع عن المدينة باستثناء مصانع الخبز والسلاح. ما زالت أعمدة القاعة مكسوّةً بطبقةٍ من جليد الشتاء المنصرم جرّاء قطع التدفئة عن المدينة في زمن الحصار. في ذلك المساء صبّت كلّ القوات المدفعية والجوية السوفياتية نيرانها على مصادر نيران العدوّ لمنع استهداف المدينة خلال ساعة ونصف من الوقت اللازم لأداء السيمفونيّة السابعة لدميتري شوستاكوفيتش المسمّاة “لينينغراد” على سلّم دو ماجور.
كان لأداء السيمفونية في قلب لينينغراد المحاصرة أهمّية استراتيجيّة. أضحى هذا الحفل بحدّ ذاته رمزاً خاصاً للصمود والمقاومة لدى سكّان المدينة. والموسيقى نفسها لعبت دوراً هاماً في رفع معنوّيّات كل من سمعها في المدينة وعلى الجبهة. اما الجنود الألمان الذين يحاصرون المدينة، وما أن تناهت إليهم تلك الموسيقى القادمة من مدينة يظنون أنها ماتت، حتى تنبؤوا بهزيمتهم.
يُحكى أيضاً أنّ سفير ألمانيا النازية في مملكة السويد المحايدة أعرب عن احتجاج بلاده على أداء سيمفونية شوستاكوفيتش السابعة على أراضي المملكة، بحجّة أنها بذلك تنقض حياديّتها. إلى هذا الحدّ شعر النازيون بعدائيّة هذا العمل الموسيقيّ لإيديولوجيّتهم. عمل موسيقي بلا كلمة واحدة يحمل كلّ هموم الإنسانيّة وأزماتها إلى المستمع. موسيقى تدين القوى المعادية للإنسان. موسيقى تقف بوجه آلة الحرب وتتغنّى بالإنسان وكرامته وإرادته. إنّ سرّ خلود العمل الفنّي وجماليته تكمن في المزيج ما بين عبقرية الفنّان واللحظة التاريخية والعاطفية الانفعالية التي يولد فيها العمل.
يقول شوستاكوفيتش عن رائعته: “لا أعرف كيف يمكنني أن أصف تلك الموسيقى. أعتقد أنّها تجسّد دموع الأمّ على ولدِها، أو ذلك الشعور عندما يبلغ الأسى حدّاً عظيماً لا يتبقّى عنده أي دموع تُذرف”.
ومن بعض ما كتبت الشاعرة السوفياتية أولغا برغولتس عن أوّل أداء للسيمفونية السابعة لشوستاكوفيتش:
(….سوف ننتصر على النازيين!
أيها الرفاق، سوف ننتصر عليهم حتماً!
والناس الذين أتوا للاستماع إلى سيمفونية “لينينغراد” وقفوا وصفّقوا وهتفوا طويلاً للمؤلّف، إبن لينينغراد والمدافع عنها. وأنا رأيته، نظرتُ إليه واقفاً على المسرح، نحيلاً، هزيلاً ومنهكاً بنظاراته السميكة. نظرتُ إليه وقلتُ في نفسي: هذا الإنسان أقوى من هتلر..)
*****
هذه المقالة مأخوذة عن صفحة سلام قبيلات (وهو زوجي! ) كتبها قبل عدة أعوام، ويشكر في آخرها صديقنا المشترك، العزيز والمسرحي والفنان الأصيل وليد دكروب الذي كتب مادة طويلة عن قصة هذه السمفونية ويقتبس مقاطع منها ببعض التصرف . Walid Dakroub
وليس لدي ما أضيفه على هذا المقال، سوى أنه في التاسع من آب، عام 2020 تم الاحتفال بمرور ثمانين عاما على عزف هذه السمفونية في لينينغراد، فأعيد عزفها في الهواء الطلق على ضفة نهر النيفا. يتخلل العزف أحيانا إلقاء شعر أو مقطوعات نثرية عن الحرب، من قبل فنانين روس كبار. أنصحكم جدا بالاستماع إلى هذه السمفونية التي تقشعر لها الأبدان لاسيما وأن مشهد المدينة أثناء العزف، يبدو جزءا من الموسيقى بجماليته. ما ذكرني بها هم العائدون للجنوب. وأهل غزة. لينينغراد أيضا كانت مدمرة، وكان الجوع وصل بأهلها لأكل القطط الميتة. قتل أثناء الحصار الذي استمر ثلاثة أعوام، ما يزيد عن المليون إنسان، إما من القصف أو من الجوع والبرد والمرض. لكن المدينة صمدت، بالإرادة، والقتال والصبر وبالفن أيضا.