الحرية قضية واحدة لا تتجزأ
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ
إهداء
إلى مناضلي الثورات الشعبية في وطني العربي وكافة أرجاء العالم
أهدي هذا العمل المتواضع
سلاماً لمحبي شعوبهم ومن يفتدونها بحياتهم
سلاماً للأبطال
مقدمة
كنت في أواسط التسعينات قد قمت بترجمة روايتان من أدب المقاومة الألمانية لأثنين من الكتاب الألمان، الذائعي الصيت وهما: كلاوس مان(Klaus Mann)، وهارالد هاوزر(Harald Hauser)، آمل أن يشاهدا النور في أقرب فرصة ويوضعان تحت أنظار الجمهور. وبطريق الصدف ووسط ظروف موضوعية لا توصف بأنها جيدة، وقعت على مجموعة من الأعمال الأدبية الألمانية، واستطعت بسهولة أن أتبين أن هذه الرواية التي بين يدي القارئ الكريم هي أفضلها ووقع اختياري على ترجمتها.
تدور أحداث هذه الرواية في أدغال الأمازون في البرازيل، وعن انتفاضة عمالية. والمؤلف يسند دور الراوي لمهندس ألماني يعمل كاستشاري لشركة برازيلية تعمل على شق طريق يمتد من مدينة كيرس إلى مدينة ريوارغوايا، والشركة البرازيلية، ومن أجل جني المزيد من الأرباح كانت تستغل ألاف العمال وتضطهدهم وتصادر حقوقهم، فتنضج كنتيجة لذلك ظروف أنتفاضة عمالية شأنها كشأن أنتفاضات لا حصر لها في تاريخ الحركات العمالية والتحررية والثورات المغدورة في العالم الثالث التي في تصاعدها وتراكمها تزداد خبرة وتمرس في خوض نضالات التحرر الوطني، مع نتائج أخرى جانبية أكثر وضوحاً في تعمق الأزمة الإنسانية فبتلك المجتمعات وتسلط ديكتاتوري يسفر وبخلف ضحايا وقصص بطولة.
ولست واثقاً إن بوسعنا أن نعد هذه الرواية من أدب المقاومة، فمؤلفها ليس ببرازيلي حيث تدور الانتفاضة، كما أنه لم يكن عضواً في الحركة الثورية، أو الانتفاضة بمعنى أدق، بل أن موقفه منها وهو التقني الأوروبي، موقف ليبرالي. ففي الوقت الذي يدين فيه صراحة النظم الديكتاتورية ونظم التعسف وحكومات الأقلية التي تملك المال (الأوليغارشية)، أو الحكومات الكومبرادورية التي هي امتداد طفيلي للاحتكارات الرأسمالية العالمية ومتربولاتها، إلا أنه ومن موقفه الليبرالي لا يستطيع إدراك قوانين تراكم التناقضات واحتدامها وأخيراً انفجارها. فرغم أنه يقدم تأييده للنضال التحرري، وينتقد أٍساليب الحركة الثورية، ولسنا هنا بصدد مناقشة أراء المؤلف التي سيطالعها القارئ واضحة في سطور الرواية، بل إننا مهتمون بتصنيف هذا العمل الأدبي الهام، وهي رواية شاهد يعرض فيها المؤلف عرضاً لأفكاره وأحداث انتفاضة ثورية، وهو لا يستطيع إدراك التفاوت الكبير في الموقف الاجتماعي والاقتصادي بين بلاده ألمانيا أو أوربا الغربية وبين البرازيل وعموم أميركا اللاتينية وخصائصها المتميزة.
ولكن الرواية هي من أدب الثورات، والكاتب على لسان شاهده المهندس الألماني يعبر في مناسبات عديدة بأنه لا يفهم مفردات كثيرة عن مجرى النضال وخطوطه السياسية والفكرية والنضالية العملية، وذلك يعكس الطبيعة الخاصة لنضال حركات التحرر في الأقطار النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
فنحن إذن أمام رواية تتحدث عن أحداث ثورة بضمير الشاهد، ضرب من ضروب أدب الثورات قدم فيها هيمنغواي رواية لمن تقرع الأجراس، وأندريه مالرو في رواية الوضع البشري، وكذلك روايته الأمل، وبرغم أنني لا أريد بأي حال أن أقارن بين هذا العمل وتلك، ليس فقط بسبب اختلاف مستوى الأدباء فحسب، بل والتجربة الثورية والإنسانية بأسرها، والحدث الإنساني الذي مثل العقدة الدرامية للرواية.
والمؤلف لا يريد أن يصدر حكماً غيابياً على أطراف الصراع، بل هو يدع أبطال روايته يجرون الحوارات فتدور شيقة زاخرة بالحجج، والكاتب يريد أن يكون حيادياً، فهو يدع أبطال روايته حتى رجال الأمن ومؤسسات السلطات الحكومية بعرض وجهات نظرهم، ويسعى للحفاظ على حياديته وقد أفلح في ذلك إلا قليلاً، فهو وإن عبر عن شجبه لقمع الفاشيات العسكرية والأنظمة الديكتاتورية والأنظمة البورجوازية العليا المتحالفة مع كبار ملاكي الأرض والفئات المهيمنة على الفعاليات الاقتصادية وهي من أذرع الإخطبوط الرأسمالي العالمي، بيد أن المؤلف لم يستطع أن يستوعب قوانين الثورة ولم يضع نفسه في معسكرها، وإن أبدى تعاطفاً كبيراً معها، فنحن إذن أمام شهادة، وربما شهادة مهمة لأنها صادرة عن كاتب ليبرالي يضع على أفواه أبطاله لا سيما المهندس الاستشاري الألماني شعارات ومفردات موقفه السياسي والاجتماعي.
ويعرض الكاتب ببراعة موقف الثورة، فقائد الثورة يقول (ص106) ” إنهم لا يستطيعون تجويعنا بعد أكثر، وعندما ستهدر القنابل والمدفعية الثقيلة سنكون قد أوقدنا شعلة الحرية في كافة أرجاء الوطن.لا يمكن إيقافنا.. البرازيل قد أفاقت “.
والدكتور سنتالوس بحديثه هذا لربما يدرك بذكائه وهو رجل مثقف أن معركته خاسرة على المدى القصير، ولكنها رابحة على المدى البعيد، إن إستراتيجية حرة التحرر في مواصلة النضال الدامي وانتزاع المكاسب وبالتالي الانتصارات من أيدي خصومهم لن يتم إلا عبر أشلائهم ونضالهم هو الوحيد الذي ينهي عبوديتهم وهذا الموقف النضالي لا يعبر عن اليأس أو التورط، فهذه حسابات سياسية تقليدية لا يتعامل بها الثوريون والمؤمنون بقوة الشعب وإرادته.
بل أن قائد الثورة واع للمشكلات التي تصاحب العمل الثوري واحتمالات الإخفاق بقوله (ص 107) ” هؤلاء البشر الذين تركوكم لوحدكم هل يستحقون ذلك ..؟ ” هو موقف يعبر عن وعي عميق بالقوة الكامنة لدى الشعب، فهو ينظر إلى جماهير الانتفاضة ” وهل بوسع أحد إيقاف مسيرة هؤلاء، لقد أشتعل البركان، دعه يندلع إلى أن يتداعى نهائياً “.
ويبلغ هذا الوعي ذروته عندما يوجه الشاهد اللوم إلى قائد الثورة بأن الانتفاضة لا تجد استجابة في أي مكان، وإن الناس سينسون تضحياتهم، ومشاهدة مباراة بكرة القدم هي أهم من نضالهم وموتهم، فبجيب قائد الثورة: ” هناك أعمال فردية لدعم الانتفاضة ولكن حتى قيام الانتفاضة العظمى والثورة سنكون نحن القدوة ” فيسأل الشاهد وهل يستحق ذلك الموت هكذا بعذاب ؟ فيجيبه ” نعم، فبدون نموذج أعلى لا توجد هناك ثورة، هل كانت ستوجد مسيحية بدون مسيح معلق على الصليب ؟؟”.
يردد الكاتب/ الشاهد في كثير من الصفحات أنه لا يفهم مفردات كثيرة في مجرى النضال، سواء في خطوطه السياسية والفكرية أو العملية وذلك يعكس دون ريب الطبيعة الخاصة لنضال حركات التحرر في الأقطار النامية.
ومن جهة أخرى تقدم لنا هذه الرواية معلومات تطور ثقافتنا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدائرة في البرازيل الذي يعتبر من البلدان النامية المهمة، وعن بلدان أميركا اللاتينية بصفة عامة.
أواسط أيلول / 1998