مقالات
تشكيل الحكومات والبدع الدستورية بقلم المحامي حسن بيان-طليعة لبنان –
بقلم المحامي حسن بيان-طليعة لبنان -
![](https://sawtoroba.com/wp-content/uploads/2025/01/BAAYAN.jpg)
تشكيل الحكومات والبدع الدستورية
بقلم المحامي حسن بيان-طليعة لبنان –
لم يكد لبنان يخرج من مطب الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية عبر انتخاب رئيس جديد بعد شغورٍ امتد لاكثر من سنتين وشهرين ، حتى وقع في مطبٍ اخر ، هو مطب التشكيل الحكومي ، اذ بعد مُضي ماينوف عن ثلاثة اسابيع لم يتصاعد الدخان الا بيض من مدخنة “الصرح الحكومي” رغم التحديات الكبيرة التي تواجه لبنان في هذه الظرف والذي يستوجب الا سراع باعادة الا نتظام لعمل الدولة انطلاقها من مرفقها الاهم وهو سلطتها التنفيذية التي يديرها مجلس الوزراء.
فلبنان الذي لم يعد يحتمل ترف الوقت ، نظراً لما عاناه ويعانيه من شلل عام طال كل مرافقه المتعلقة بإدارة الشأنيين العام والخاص في ظل ادامة ازمته المتعددة العناوين التي ترهق كاهل الدولة كما كاهل كل مواطن من الشريحة الاوسع من الناس ، هو اليوم واقع تحت تأثير تداعيات العدوان الصهيوني وما خلفه من نتائج كارثية على مستوى البنى التحتية والتدمير الواسع للمرافق الحيوية والحياتية وما ترافق معه من وقع ثقيل للنزوح الواسع الذي لم تندمل حتى الان ندوبه ، في وقت لم يعد بالامكان عودة كثيرين الى منازلهم واماكن سكنهم لاستحالة مادية ناتجة عن مسح قراهم واحياء واسعة من بلداتهم التي هي على خط الحدود مع فلسطين المحتلة. وهذا كافٍ بحد لان يجعل من الذين يعتبرون انفسهم معنيين باعادة الحياة الى انتظامها العام ، لان يقلعوا عن اساليب المماطلة والمماحكة والتمترس وراء الحصص لو كانوا فعلياً حريصين على اراحة البلد وتمكينه من عودته الى الحياة الطبيعية . لكن يبدو وكما هو ثابت من تعاطيهم مع التشكيل الحكومي ان حفاظهم على امتيازاتهم في السلطة يتقدم علي أي شيء اخر ، حتى لو كان على حساب ضرورات الامن الوطني والحياتي وكل ما له صلة بتوفير الحدود الدنيا من شروط الاستقرار المجتمعي.
واذا كانت المصدات التي ترفع في وجه التشكيل الحكومي كثيرة ومنها مايتعلق بتوزيع الحصص وما ينظر اليه من خلفية “الاعتبارات المعنوية”لبعض الاطراف ، فإن بعضاً من التعقيدات التي يتم التلطي وراءها هي تباين وجهات النظر حول تفسير العديد من النصوص الدستورية ، حيث بدا ان هذه التفسيرات تتحكم بها الخلفيات السياسية ، علماً ان النص الدستوري واضح ، وبالتالي لا اجتهاد في موضع النص. وهذا التجاوز للنص ، ادى الى ايجاد اعرافٍ ، يريد لها البعض ان ترتقي حدّ قوة النص على قاعدة “المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً”. والاخذ بهذه القاعدة ادى الى ادخال مفاهيم جديدة على قاموس المفردات الدستورية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر ، مايسمى بالوزارات السيادية.
ان الوزارات السيادية هي بالاساس ليست غريبة عن مفردات القاموس الدستوري ، لكن الغريب بالامر ان يتم اسقاطها على التكوين الوزاري اياً كان شكل الدولة ، بسطية او مركبة.
ففي الدول البسطية ، تكون الوزارات على اختلافها بذات المصاف في ادارتها للادارات المعنية بها ، ويكون البلد واقعاً تحت ادارة حكومة مركزية واحدة . وبالتالي تؤدي الوزارة وظيفتها في حدود القوانين والمراسيم التطبيقية الناظمة لعملها ، وبالتالي لابكون هناك تمييز بين وزارة واخرى .
اما في الدول المركبة أي الدول الاتحادية ، والتي تكون اما فدرالية او كونفدرالية ، فتديرها حكومة مركزية تعمل الى جانبها حكومات محلية. وميزة الحكومة المركزية عن الحكومات المحلية التي تتولى ادارة المرافق في نطاق ولاياتها ، ان ثمة صلاحيات مكانية ووظيفية تتولاها حصراً ، وتسمى بالوزارات السيادية. ومن هذه الوزارات ، الدفاع لتعلق الامر بالامن الوطني ، والخارجية لتعلق الامر بسياسة الدولة الخارجية ، والمالية لتعلق الامر بوحدة النقد وادارة موارد الدولة العامة وتحديد اوجه انفاقها ومنها مايتعلق بتخصيص الحكومات المحلية بما يقرر لها من الموزانة العامة للدولة ، واخيراً وزارة الداخلية لدورها في توفير مقتضيات الامن الدخلي على مساحة الجغرافيا الوطنية ، علماً ان البعض لا يدرج وزارة الداخلية ضمن الوزارات السيادية لكن الاصح انها واحدة من الوزارات الاربع.
من هنا ، فان تقسيم الوزارات في لبنان وهو دولة بسطية ، الى سيادية وغير سيادية ، يقع في غير سياقه الدستوري ، لا بل يرتقي حدّ البدعة الدستورية التي تضاف الى كثيرٍ من البدع الاخرى كالتي يروج لها تارةً تحت عنوان تخصيص وزارات لطوائف وتارةً اخرى تحت عنوان حكومات تكنوقراط وحكومات سياسية ، والبدعة هنا تكمن في اسقاط الطبيعة السياسية للمنصب الوزاري ، اذ ان الوزير في الحكومة وان كان يمثل رأس الهرم الاداري في الوزارة المناطة به ، الا ان دوره الاساسي هو تنفيذ سياسة الدولة في القطاع الذي يديره. وبالتالي فإن وظيفته هي سياسية بطبيعتها بغض النظر ان كان ينتمى الى احد الاحزاب او الكتل السياسية العاملة وبغض النظر ان كان صاحب اختصاص تقني او لم يكن . وهذا واضح في نص الدستور ( البند ١) من (المادة ٦٥) والتي تحدد صلاحيات مجلس الوزراء ، بانه فضلاً عن اناطة السلطة الاجرائية فيه ، فإنه يضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات. كما نصت المادة ٦٦ من الدستور فقرة ٢ ” يتولى الوزراء ادارة مصالح الدولة “.
ومن البدع الاخرى التي يتمترس وراءها الممماحكون ، هي الميثاقية ، وهنا يخلطون بين الميثاقية التي نص عليها الدستور وهي تمثيل الطوائف الروحية ، وبين التمثيل للطوائف في المجلس النيابي. فالدستور الذي حدد الميثاقية في (الفقرة ي ) من مقدمة الدستور ، اعتبر ان لاشرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. والعيش المشترك الذي قصده المشترع ، هو التعايش بين الطوائف الروحية وتمثيلها بشكل عادل في المؤسسات الدستورية والادارية وليس التعايش بين الاحزاب والكتل السياسية التي افرزتها الانتخابات النيابية على اساس القانون الانتخابي الطائفي او بين القوى السياسية خارج التمثيل النيابي . فالميثاقية تتحق في السلطة التنفيذية سواء كان اعضاؤها منتمين الى احزاب او كتل ممثلة في المجلس او لم يكونوا. علماً ان السطلة التشريعية قوامها وظيفتان اساسيتان . هما التشريع والرقابة على اعمال السلطة التنفيذية اضافة الى صلاحية تفسير الدستور وتحولها الى هيئة ناخبة عند بلوغ الاستحقاق الرئاسي. وعليه ، فإن الدعوة لتشكيل حكومة تكنوقراط ، لا يعني ان الحكومة لاتمارس سلطة سياسية ، بل هذه من صلب طبيعتها الاساسية ، واذا كان الوزير خبيراً فنياً في اختصاصه لجهة الوزارة التي يديرها فهذا “زيت على زيتون” .
كما أنه من البدع الدستورية ، الخلط دائماً ، بين الاثر الناشىء لمرسوم تشكيل الحكومة والاثر الاعلاني.
فتشكيل الحكومة مناط بالرئيس المكلف عملاً بنص (المادة ٦٤ فقرتها الثانية ) ، وبالتالي فإن الاثر الناشىء يتحقق من خلال تأليف الرئيس المكلف للحكومة قبل اصدار مرسوم تشكيلها واعلانها للملأ . واما الاثر الاعلاني فيتحقق من خلال اقدام رئيس الجمهورية على اصدار مرسوم التشكيل ممهوراً بتوقيعه مع رئيس الحكومة.
ان تجاوز هذه البدع الدستورية ، من شأنه ان يزيل كثيراً من العقبات ويحول دون وقوع الحكم والحكومة في مطبات هما بغنى عنهما ، وان من يبدي تحفظاً على شكل الحكومة او على بيانها الوزاري ، فالدستور منحه حق الرقابة على اعمالها ، وحتى اسقاطها عبر سحب الثقة عنها مجتمعة او عن احد اعضائها.
من هنا فإن النظام اللبناني الذي تحكمه قواعد الفصل بين السلطات ، لاتستقيم حياته الدستورية ، الا اذا طبّق الدستور تطبيقاً منسجماً مع نصوصه والاقلاع عن التفسيرات السياسية للنصوص الدستورية والتمترس وراء بدع دستورية اقل مايقال فيها انها لاتشكل خروجاً عن ضوابط النص وحسب ، وانما تلحق افدح الاضرار بمصالح العام والخاص .
اذا كان الدستور حفظ لكل سلطة دورها وحدد اليات تكوينها ، فإن على الرئيس المكلف اذا مابقيت عملية وضع العصى في دواليب التكليف قائمة ،تشكيل الحكومة وفق الصلاحيات الدستورية الممنوحة له والذهاب بها الى المجلس النيابي ، فإما أن تمنح الثقة واماأن تحجب عنها ، وهذه هي اصول اللعبة الدستورية.