ذاتنا وصورتاها من الداخل والخارج

ذاتنا وصورتاها من الداخل والخارج
نادية هناوي
وجهتْ إليَّ إحدى مجلاتنا الثقافية المحترمة دعوة للمشاركة في ملف تعدُّه عن «الأدب والمستقبل» من خلال الإجابة عن سؤال محوري: هل يمكن للأدب أن يصور المستقبل بدقة؟ ولستُ ألمس شكاً في نوايا القائمين على المجلة، ولا صدق حرصهم في خدمة الأدب، لكنني أجد التوقيت غير مناسب لمثل هذا الطرح، خاصة بعد الذي حلَّ بأهلنا في غزة من ويلات وإبادة جماعية نفَّذتها الصهيونية المتوحشة مدعومة بالإمبريالية الغاشمة، وما تولَّد عن ذلك من خيبة أمل وإحباط تغلغل إلى أغوار أنفسنا.
إنَّ بحث المستقبل وما (سيكون عليه) قفز على الواقع وترحيل لدور الأدب إلى (مراحل آتية) تصرفه عما يحيط بنا من مخاطر وتحديات تتعلق مباشرة بوجودنا وكياناتنا؛ فهل تفكرنا بما آلت وستؤول إليه كوارث غزة؟ هل فحصنا مساراتنا وحددناها؟ هل أمعنا النظر في ذواتنا، وعرفنا ما بقي لها أو ما بقي منها؟ ألف هل وهل.. علينا أن نواجه بها ذواتنا من الداخل والخارج، لنعرف ما تبقى من صورتنا؛ ننظر إلى دواخلنا من دواخلنا، وننظر إلى خوارجنا بأعيننا أو أعين الآخرين سوانا.
ولا يمكن للمرء أن يبني صورة عن ذاته بأن يراها من زاويته حسب، إذ تظل مجرد رؤية داخلية قاصرة عن الإحاطة بالزوايا الخارجية التي عادة ما يرصدها الآخر البعيد. وكي تكون رؤية الآخر موضوعية ينبغي أن تكون شاملة لكل ما هو سلبي وإيجابي. وهو ما ينطبق على الأفراد كما ينطبق على المجموعات والكيانات. والذات العربية في مرحلتها الراهنة بحاجة إلى الصورتين: الداخلية بعين نفسها، والخارجية بعين الآخر. والأولى مسبار استبطان واستغوار، به تقيِّم الذات وضعها، فتقوِّم من ثم مسارها. والمعول عليهم في التقاط الصورة الداخلية هم المفكرون والكتّاب والنخبة المثقفة عامة، لأنهم الأكثر وعياً بقضايا المجتمع التاريخية والأكثر معرفة للحاضر وتهمّهم بارومترية الوعي ومآلاته. والصورة الثانية ورقة اختبار للذات، من خلالها تَعرف ما لها من قوة واقتدار، وما فيها من وهن وأهوال. والمعول عليهم في عكس هذه الصورة هم الآخرون من المفكرين المعتدلين أو الرحالة المستكشفين أو الكتّاب المترجمين الذين عايشوا الواقع العربي، فامتلكوا ما يؤهلهم لأن يضعوا صورة خارجية منصفة له.
وفي خضم التحديات الراهنة، يغدو مهما الحصول على صورة داخلية لحال الذات العربية في ربع قرن من الألفية الحالية، بها تكاشف الذات نفسها من ناحية الانجاز أو الانتكاس، فتعرف أين هي من تاريخها، وما لها من مقادير أو حظوظ في أن تغيِّر حالها نحو الأفضل. ولأن الأمر بهذه الأهمية، يصبح واجباً الاستنفار بشكل جماعي مقصود وبوازع أخلاقي يبدأ من مثقفي الأمة وينتهي عند أبسط مواطنيها تحقيقاً لصورة داخلية تعكس حال الذات العربية في مواجهة قضاياها، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ولا شك في أنَّ مثل هذا الاستنفار والتوجيه سيساعد في تشخيص إيجابيات تلك الذات وسلبياتها، وربما بلورة رؤى واستراتيجيات جديدة تعمل باتجاه التغيير أو الانقلاب.
ويرتهن أمر الصورة الخارجية على ما لدى الآخر من حوافز تجذبه نحو الحياة العربية، فيأتي إليها قاصداً معرفة حقيقة ما يُشاع عنها. صحيح أن مثل هؤلاء قلة من الناحية العددية، لكن لهم أثراً نوعياً. كونهم هم البعيدون المختلفون والمخالفون الذين يخدمون الذات العربية من زاويتين: الأولى أنهم يضعون أمام هذه الذات صورة مقرَّبة لحالها، والثانية أنهم يحملون إلى بلدانهم رؤى جديدة، تغاير ما هو سائد فيها عن بلاد العرب.
ولقد أدى الرحالة الأجانب هذا الدور في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد، فكانوا يأتون مستكشفين، وأغلبهم من الأدباء والفنانين الأوروبيين. ولقد سجلوا مذكراتهم، ووثقوا رحلاتهم أو وضعوا تصاوير ورسومات تحاكي ما كان سائداً آنذاك في مدن بغداد ومكة والقاهرة وفاس وغيرها. وعرف عصرنا الحالي شيئاً آخر يضاف إلى ما تقدم هو وجود أجانب متقنين للغة العربية، يشدون الرحال إلى بلادنا كي يعايشوا يومياتها، ويتعرفوا إلى خصوصيات حياة الإنسان العربي. وقد يكتبون عن ذلك سيراً ومذكراتٍ فيها الذات العربية مصوَّرة بعين الآخر.
ومن تلك المذكرات كتاب «العرب من وجهة نظر يابانية» للباحث والمترجم الياباني نوبوأكي نوتوهارا ( 1940- ) وكان قد أفاد من فتح قسم للدراسات العربية في جامعة طوكيو عام 1961 فتعلَّم اللغة العربية حتى أتقنها تدريساً وبحثاً كما قام برحلات عدة إلى مصر وسوريا والأردن، كانت أولاها عام 1974 حين حصل على منحة للدراسة في جامعة القاهرة.
وكان للروايات والقصص العربية حصة كبيرة في ما ترجمه نوتوهارا إلى اللغة اليابانية، وبسبب شغفه بالأدب العربي ومتابعته لكتّابه، التقى بعدد منهم. ووصف نفسه بـ(المراقب المحب والحريص الذي أعطى الشخصية العربية أكثر من أربعين عاما من عمره) وهدفه (أن يقول للقارئ العربي رأياً في بعض مسائله). فلقد رأى الحياة العربية عن كثب، وكوَّن صورة خارجية للذات العربية من منظور ثقافي، فيه العين الأجنبية تبئر الحال، فتعرف الخلل وتؤشر على الحسن من دون أن تهمل المختل والسيء.
ولقد قادت هذه الأسئلة وغيرها نوتوهارا إلى تشخيص ما سماه الداء العضال الذي أصاب الحياة العربية وهو القمع الذي جعل المجتمع مشغولا بنمط واحد على غرار الحاكم الواحد. فصار المواطن العربي لا يشعر بمسؤوليته عن الممتلكات العامة مثل الحدائق والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات. ولذلك يدمرها اعتقادا منه أنه يدمر ممتلكات الحكومة لا ممتلكاته هو.
وينعكس واقع الحال هذا على الفئة المثقفة فتشعر باللاجدوى، وهي تعرف الحقائق حق المعرفة لكنها تخبئها خشية النقد الذاتي. ويشدد نوتوهارا على دور هذا النقد في تغيير الحال والمآل يقول: «إن الشخصية أو الحزب السياسي أو الهيئة الاجتماعية التي لا تقبل النقد تنحط وتتدنى يوما بعد يوم حتى تصل إلى الحضيض» وهذا حقيقي، فمخاوف نقد الذات أفرادا وجماعات هي التي تجعل نظرة الذات لنفسها غير وافية ولا حقيقية. ومن ثم هي بحاجة لآخر ينظر إليها من الخارج فيقدم لها عيوبها في دقائق حياتها التي تمر بها كل يوم لكنها لا تراها بسبب روتينية تكرارها. أما ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإن اليابانيين لا يعرفونها إلا من خلال الغرب لكن نوتوهارا عرفها من خلال غسان كنفاني الذي أثَّر فيه تأثيرا عميقا، فترجم روايته «عائد إلى حيفا» إلى اللغة اليابانية.
وحين زار نوتوهارا مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، اتخذ الموقف الآتي من القضية الفلسطينية: «العالم كله مسؤول عن الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني. المسألة ببساطة شديدة هي أن مجموعة بشرية جاءت من خارج فلسطين واستوطنت بقوة السلاح ثم شردت شعباً واغتصبت أرضه وثقافته وتاريخه. فالقضية الفلسطينية خطأ ارتكبه العالم وما زال يتفرج عليه من دون أن يعمل جدياً على حله. إن الموقف من القضية الفلسطينية مرتبط بمسألتين جوهريتين هما: العدالة ووعي المسؤولية. ومن فكرة العدالة ووعي المسؤولية كونتُ موقفي من القضية الفلسطينية.. الأمر بالنسبة لي ليس معاداة لأحد أو تعصباً لأحد لأنني لست ضد حق اليهود في الحياة الكريمة فهذا حق البشر جميعاُ ولكن بدون أن يكون هذا الحق على حساب شعب آخر». وأفاض القول في الطاقة الروحية عند الفلسطينيين وكيف تم التعبير عنها بالبحث والرواية والشعر والرسم والسينما وغيرها.
إنَّ هذه الصورة الخارجية التي رسمها نوتوهارا في كتابه «العرب من وجهة نظر يابانية» هي بمثابة نقد موضوعي للذات العربية في ضعفها وقوتها. ولا تنفع هذه الصورة لوحدها ما لم تكن هناك صورة داخلية فيها تنقد الذات حالها، فتشخِّص بنفسها مواطن قوتها وضعفها. وباجتماع الصورتين تتمكن الذات من أن تصحح حاضرها وتواجه القادم في مستقبلها. ولكن متى يتحقق هذا الاجتماع، فتبني الأمة صورة شاملة لواقعها؟
إننا بلا شك حتى اللحظة عاجزين عن أن ننقد ذواتنا العربية أو أن نلم إلماماً كافياً بالمجريات المرعبة لما حصل في غزة ومخيمات اللجوء في لبنان وسوريا. ولعل الإحباط هو الذي يجعلنا متقاعسين عن التفكير في سبل مواجهة الواقع المرير. وهذا ما يغرينا لأن نرحِّل مشاكلنا عبر التلهي بالكتابة عن المستقبل.
إن النقد الذاتي لأنفسنا ونقد الآخر الموضوعي لنا مسألتان مهمتان في تشخيص راهننا العربي. وإذا كان الأديب العربي عاجزاً عن الإدلاء بدلوه، فإنَّ الآخر سيشخّص هذا العجز فيه عاجلاً أم آجلاً.
*كاتبة من العراق
كاتبة واكاديمية من العراق