ترامب: العداء للمؤسسات الدولية والتملّق للاحتلال
![](https://sawtoroba.com/wp-content/uploads/2025/02/د-سعيد.jpg)
ترامب: العداء للمؤسسات الدولية والتملّق للاحتلال
د. سعيد الشهابي
عندما كانت قوات الاحتلال الإسرائيلية تمارس أبشع أشكال التدمير في غزّة لم يكن هناك من يردعها، بل أن أمريكا لم تتردد في إعلان الاستمرار في تزويدها بالأسلحة خلال تلك العمليات، التي كانت من أكثر جرائم الحرب توحّشًا. واليوم يتضح الهدف من الهدم الذي أتى على أكثر من 70 بالمائة من المنشآت المدنية.
فقد جاءت دعوة الرئيس الأمريكي لأهل غزة بمغادرتها طالبا من مصر والأردن توطينهم ضمن مسلسل الإبادة الذي لم يتوقف منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن. تقوم أمريكا بذلك أمام مرأى العالم ومسمعه، مع أصوات خجولة من بعض العواصم الغربية والأمم المتحدة لا يتم ترجمتها إلى سياسات حقيقية. فالفعل إجرامي بوضوح، والفاعل معروف وداعموه لا يحاولون إخفاء هويتهم. مع ذلك استطاعت قوى الثورة المضادة تحييد العالم عمليّا في الصراع من أجل الحرّيّة والحق ليس في فلسطين فحسب بل في أغلب مناطق العالم. ولذلك لا يجد المسؤولون الأمريكيون غضاضة في انتهاك القانون الدولي علنا، ولا يترددون في استهداف الجهات التي تسعى للضغط عليهم للانصياع للقانون الدولي. ولطالما اتخذت واشنطن إجراءات صارمة ضد مؤسسات مرموقة مثل مجلس حقوق الإنسان ومنظمات الأمم المتحدة مثل «أونروا» ولطالما خفضت مستويات دعمها للمنظمات المعنية بالعمل الدولي المشترك. وفي الشهر الماضي أعلن الرئيس ترامب تجميد الدعم الأمريكي لمحكمة الجنايات الدولية بعد أن أعلنت عزمها على مقاضاة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه، يوآف غالانت المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في غزة. هذا الموقف الأمريكي ستكون له تبعات خطيرة على أمن العالم واستقراره. فحين تقف كبرى دول العالم ضد ما يمكن اعتباره تجسيدا عمليا للعمل المشترك الهادف لإحلال السلام ومنع العدوان، فإنها بذلك تضعف محاولات إقامة حكم القانون وردع العدوان. إن أمريكا بسياستها هذه تنال من مصداقية المؤسسات الدولية بشكل واضح.
ثنائية الموقف هنا مقززة بدون حدود، فهي غير إنسانية وبلا أخلاق. شعب يتجاوز عدده المليونين يتعرض للتدمير والإبعاد عن أرضه، ومستوطنون يُستقدمون من الشتات ليحتلوا أرض الفلسطينيين علنا بدون تردد أو خجل. فهل هناك من لحظات التاريخ أبشع من هذه اللحظة؟
والأسوأ من ذلك موقف الرئيس الأمريكي الذي أعلن بوقاحة متناهية بأن على سكان غزة الرحيل عنها وتركها لأمريكا لإقامة منطقة سياحية للترفيه. إنه الموقف الاستكباري الذي يمارس الرقص على أشلاء الآخرين ويعزف على أنّات ضحاياه بدون مشاعر أو إنسانية. موقف ترامب مضاد تماما لما أعلنه الرئيس الأسبق، جيمي كارتر الذي طالب بإنصاف الفلسطينيين ودعا باراك أوباما للاعتراف بدولة فلسطين. هذا الموقف خارج عن سياق السياسات الأمريكية المتعاقبة التي ساهمت في التنمّر الإسرائيلي غير المسبوق، والتمرّد على القيم والأخلاق والقرارات الدولية. وبعد ذلك يتساءل بعض الأمريكيين: لماذا يكرهنا العالم؟ إن العالم لا يكره الأفراد القاطنين في القارة الأمريكية بل يرفض السياسات التي تمارسها إدارات البيت الأبيض التي تفتقر للإنسانية والإنصاف والعدل.
القوة وحدها لا تضمن انتصار الدول على شعوب تناضل من أجل الحرّيّة. إنها دروس لا يستوعبها المسؤولون الكبار في البيت الأبيض
هذا لا يعني أن ما تريده أمريكا أو ما تصرح بشأنه سوف يتحقق، ولا يعني أن أمريكا تحقق النصر دائما، فما أكثر الحالات التي منيت فيها بالخسارة. فقبل نصف قرن هرعت القوات الأمريكية للانسحاب من فييتنام على عجل. بل أن بعض الجنود لم يستطع اللحاق بآخر طائرة تغادر مطار سايغون، بعد قرار الانسحاب الذي حدث بعد أن يئست واشنطن من إمكان تحقيق انتصار في ذلك البلد الذي نهضت مجموعاته المسلحة لتتصدى للاحتلال الأمريكي. ولا تغيب عن ذاكرة الكثيرين مشهد الانسحاب الأمريكي من شرق أفريقيا في التسعينيات وسحل بعض جنودها في شوارع مقديشو. كما أن انسحاب قوات المارينز الأمريكية من لبنان في الثمانينيات كان لافتا للنظر ونقطة في سجلّ التراجعات الأمريكية. فلم يكن أحد يتوقع أن يتم ذلك الانسحاب بالسرعة التي حدث بها خصوصا بعد أن عانى اللبنانيون الآثار المدمّرة للقنابل التي كانت تطلقها مدمّرة أمريكية من مسافة بضعة أميال من الساحل اللبناني لتدك مواقع في الجبل وبيروت. الدرس المهم من ذلك أن القوة وحدها لا تضمن انتصار الدول على شعوب تناضل من أجل الحرّيّة. إنها دروس لا يستوعبها المسؤولون الكبار في البيت الأبيض. وهنا تبدو مقولة «الاستفادة من التجربة» فضفاضة وغير واقعية، فامتلاك كميات هائلة من الأسلحة الفتّاكة يعمي بصائر الحكام. ومع صناعة المزيد من أسلحة الدمار في أمريكا مثل طائرات الشبح (بي 2) والصواريخ والقنابل التي يمكن إطلاقها من مسافات بعيدة، وكذلك أحدث أنواع التكنولوجيا التي تباغت الخصم وتفتك بالآلاف من أفراده، كل ذلك يضخم الشعور بالذات لدى من يمتلكها. هنا يتضاءل عمل العقل والمنطق، ويبدو كل شيء في متناول الولايات المتحدة و «إسرائيل». وينجم عن ذلك شعور مبالغ فيه بالقوة والمنعة، كما حدث للمسؤولين الإسرائيليين الذين قال رئيس وزرائهم: لا توجد نقطة في الشرق الأوسط لا نستطيع الوصول إليها. هذا برغم تصاعد الضغوط على الحكومة الإسرائيلية للبحث في الفشل الاستخباراتي الذي أدّى لوقوع حادثة 7 أكتوبر على حين غرّة ولم يكن كيان الاحتلال مستعدا لها.
ماذا يعني ذلك؟ ثمة حقائق يجدر استيعابها من قبل البشر. أولها حدود العلم لدى الإنسان، مهما بلغ من رتب عالية. الثانية: أن الظلم لا يدوم، وأن دولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة. بل أن الظلم يحمل في ثناياه أسباب هزيمة من يمارسه. الثالثة: أن المُلك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم.
فالعدل من بين أسباب بقاء الأنظمة والحكومات والحضارات. الرابعة: أن يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم. فمن استضعف أهل فلسطين وأخرجهم من أرضهم ومن دمّر غزة وهدم بيوتها على رؤوس ساكنيها لن يدوم سلطانه. وتكفي مشاهد الدمار لتحريك الضمائر الإنسانية وتغيير مسارات الأمور، فما تزال هناك إنسانية لديها مشاعر وقيم ومعايير، وهذا يكفي لكي تستعيد قوتها ودورها وتثأر للمظلومين. الخامسة: أن للنساء والأطفال والضعفاء موقعا في المشروع الإلهي الهادف لحماية الناس من الظلم والظالمين وكسر شوكة المنسلخين من إنسانيتهم، ومشهد أطفال غزة اليتامى وهم تائهون بين الدمار الهائل أصبح من أسباب انقلاب المشهد على المحتلّين الذين لم يجدوا سوى دونالد ترامب داعما لمشروعهم.
ثمة مواقف لأطراف تثير الاستغراب، خصوصا في فلسطين بسبب افتقارها للإنسانية. أولها موقف الشعوب العربية، التي لم تتحرّك لنصرة إخوتهم في فلسطين. صحيح أنها محكومة بظروف البلدان العربية الخاضعة للاستبداد، ولكن من غير المعقول هيمنة الصمت بشكل مطبق. فأين هي الخطب الرنّانة التي يُفترض أن تنطلق من حناجر الخطباء والعلماء لتحريك مشاعر الجماهير العربية والإسلامية لكي تتجسد قوة الأمّة وصلابتها وثباتها؟ أين التظاهرات والاحتجاجات؟ أين حركة طلاب الجامعات والمدارس الهاتفة باسم فلسطين؟ وأين هي مشاريع العمل الخيري الداعمة للمشرّدين منهم والذين لا يجدون ملجأ، بل يقضي الكثيرون منهم ليالي البرد في العراء؟ ثانيها: الموقف الدولي الغائب الذي لم ينتصر للمظلوم ولم يضرب على أيدي الظالم. ثالثها: غياب الموقف العربي الفاعل للردّ على ترامب وإدارته. فلا يكفي رفض سياسته التي تتبنى إفراغ غزّة من ساكنيها، كما لا يكفي رفض كل من مصر والأردن دعوته لتوطينهم، وهو موقف إيجابي يستحق الإشادة، ولكن المطلوب موقف عربي مضاد يردع الإدارة الأمريكية عن الاستمرار في سياسات البلطجة، ويحذّرها من عواقب اقتصادية وسياسية وخيمة إذا استمرت في مواقفها وسياساتها العدائية تجاه فلسطين وأهلها.
كاتب بحريني