ثقافة وفنون

الوعي الجمعي في عصر ما بعد الحداثة: كيف تُصنع الحقيقة في عصر الفوضى؟

الوعي الجمعي في عصر ما بعد الحداثة: كيف تُصنع الحقيقة في عصر الفوضى؟

مروان ياسين الدليمي

يشكل الفكر الجمعي جزءًا أساسيًا من حياة الأفراد في المجتمع، وقد تناول المفكرون موضوعه من جوانب متعددة، بدءًا من التأثيرات النفسية مرورًا بتأثير السلطة والإعلام في تشكيله، وصولًا إلى علاقة الجماعات بالثقافة والمعرفة. وفي جميع هذه الآراء، يظهر أن الفكر الجمعي له دور مهم في تشكيل الأيديولوجيات الاجتماعية، ولكن مع تحديات كبيرة تتمثل في إمكانية استخدامه كأداة للهيمنة أو الاستغلال.واليوم في زمن طروحات ما بعد الحداثة في فنون العمارة والأدب والمسرح والفن التشكيلي إضافة إلى السياسة، نحن أزاء فوضى يتصدرها الإعلام ،حيث يمارس دورا خطيرا في تمييع وتضليل وتزييف الحقائق والوقائع،بالتالي فإن المحصلة الكلية لهذا المشهد ; خلق وشيوع فكر جمعي هش . فما طبيعة هذا الفكر ؟ إنه نوع من التفكير يتبناه مجموعة من الأفراد يتشاركون في القيم والمعتقدات والآراء قد تؤثر بشكل كبير على سلوك الأفراد وأفكارهم.
سيطرة الانفعالات الجماعية
لاحظ عديد من المفكرين والباحثين التأثيرات العميقة للفكر الجمعي على الأفراد، مثلا كان غوستاف لوبون من أوائل المفكرين الذين درسوا سلوك الجماهير وتأثير الفكر الجمعي على الأفراد. وفي كتابه «سيكولوجية الجماهير»، اعتبر الأفراد في الجماعات يفقدون قدرتهم على التفكير العقلاني بشكل فردي ويخضعون لسيطرة الانفعالات الجماعية. واصفا الجماهير بأنها تنقاد وراء الحوافز العاطفية والتوجيهات البسيطة التي توفرها الزعامات أو الحركات الجماهيرية، وأن الفكر الجمعي قد يحيد بالعقل البشري،مما يؤدي به إلى تبني أفكار قد تكون بعيدة عن المنطق أو المصلحة الشخصية.
أما إميل دوركايم أحد مؤسسي السوسيولوجيا الحديثة، فقد طرح مفهوم «الوعي الجمعي»في دراساته حول الدين والمجتمع.وبالنسبة له، يشير الوعي الجمعي إلى مجموعة القيم والمعتقدات التي تربط بين أفراد المجتمع وتشكل الأساس الذي يعتمد عليه السلوك الاجتماعي.ويؤكد على أن الوعي الجمعي ليس مجرد مجموع الآراء الفردية، بل يتجاوز مسألة الأفراد ،إذ أن لهذا الفكر تأثير قوي في المحافظة على النظام الاجتماعي والانسجام بين أفراد المجتمع.
أيدولوجيات الطبقات الحاكمة
و في إطار تحليله للطبقات الاجتماعية يرى كارل ماركس أن الفكر الجمعي في المجتمعات الرأسمالية يتم تشكيله من قبل الطبقات الحاكمة. ومن خلال وسائل الإعلام والتعليم، تروج الطبقات الحاكمة لأيديولوجيات تضمن استمرارية هيمنتها واستغلال الطبقات العاملة، وبالتالي،فإن الفكر الجمعي في هذه المجتمعات في جوهره أداة للهيمنة والتلاعب،ويجب تفكيكه عبر الوعي الطبقي والتحليل النقدي.
من جانب آخر تناول مفكرو مدرسة فرانكفورت، مثل هربرت ماركوز وتيودور أدورنو، تأثير الإعلام والثقافة على الفكر الجمعي في المجتمعات الحديثة. على سبيل المثال، أكد أدورنو في كتابه «صناعة الثقافة» على أن الثقافة أصبحت صناعة جماهيرية تروج للأفكار السائدة وتقلل من قدرة الأفراد على التفكير النقدي المستقل. ومن وجهة نظر رموز هذه المدرسة ،فإن الفكر الجمعي يتم تشكيله عبر وسائل الإعلام الكبرى،التي تعمل على تأكيد الوضع القائم وترسيخ الأيديولوجيات السائدة. ويرون بأن هذا يشكل تهديدًا للحرية الفكرية ويزيد من الانصياع للثقافة الاستهلاكية. في حين يعتبر فوكو الفكر الجمعي لا ينشأ فقط من خلال التفاعلات الاجتماعية بين الأفراد، بل يتم تشكيله أيضًا من خلال المؤسسات الاجتماعية مثل المدرسة، المستشفى، والسجون.والسلطة وفقا لفوكو تعمل بشكل غير مرئي من خلال ما يسميه «الأنظمة المعرفية» التي تنظم وتؤثر على طريقة تفكير الأفراد في المجتمع. بالتالي، لا يمكن فهم الفكر الجمعي بعيدًا عن تأثيرات هذه السلطة الموجهة والتي تقوم بتحديد ما هو «صحيح» أو «مقبول». لذا، يعتبر فوكو أن الفكر الجمعي ليس مجرد تأثير اجتماعي، بل هو شكل من أشكال السلطة.
الإعلام وتضارب الآراء
بينما قدم أنتوني جيدنز مفهومًا حديثًا عن الفكر الجمعي في إطار تحليله للحداثة والمجتمع المعاصر،حيث يرى أن المجتمعات المعاصرة قد تشهد تطورًا كبيرًا في تنوع الفكر الجمعي، بسبب التأثير المتزايد لوسائل الإعلام الحديثة والتقنيات الرقمية. وفي هذا السياق، يرى أن الفكر الجمعي في عصر ما بعد الحداثة قد أصبح أكثر تنوعًا ولكن أكثر تشتيتًا، ومع أن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تعزز تبادل الأفكار بسرعة، إلاَّ أن هذا التبادل يؤدي أيضًا إلى تضارب الآراء وتجزؤ الرأي العام، مما يخلق نوعًا من العجز في تشكيل رأي جماعي موحد،وهذا ما يبدو واضحا في ما يتعلق ما اصطلح عليه «الربيع العربي»وما تشهده سورية اليوم من أوضاع بعد سقوط نظام عائلة الأسد .
وفي معرض تحليله للثقافة والتطور الاجتماعي،اعتبر نوربرت إلياس أن الفكر الجمعي جزء لا يتجزأ من عملية التمدن والتطور الاجتماعي.ومع مرور الزمن،أصبح الأفراد في المجتمع أكثر ارتباطًا بالجماعات والمجموعات التي تشاركهم نفس القيم والمعتقدات. وفي هذا السياق، يعتبر أن الفكر الجمعي يساهم في تنظيم سلوك الأفراد، مما يساعد على تشكيل الهويات الاجتماعية، وتقليل النزاعات داخل المجتمع.
خطورة الفكر الجمعي
شيوع الفكر الجمعي في المجتمعات يمكن أن يؤدي إلى العديد من المخاطر التي تؤثر على الأفراد والجماعات في مختلف جوانب حياتهم. وعلى الرغم من أن الفكر الجمعي قد يعزز من الوحدة والانتماء الاجتماعي في بعض الحالات، إلاَّ أن هناك أبعادًا سلبية قد تترتب على هذا الشيوع، خصوصًا عندما يتسبب في تشكيل آراء وقرارات غير مدروسة أو غير نقدية.وأبرز المخاطر التي قد تنشأ عن شيوع الفكر الجمعي:تقليص مساحة التفكير النقدي، فعندما يتبنى الأفراد قناعات جماعية دون تمحيص أو تحليل شخصي، فإنهم يعجزون عن التفكير بشكل مستقل أو بناء آراء من خلال فحص الحقائق، ونتيجة لذلك، يتم قمع الأفكار المتنوعة والآراء المخالفة، مما يؤدي إلى ضمور الفكر النقدي الذي يعتبر أساسيًا للتطور العقلي والفكري في المجتمعات. هذه الظاهرة تجعل الأفراد يصدقون أي شيء يتم ترويجه دون النظر في منطقية أو صحة هذه الأفكار. كما يساهم الفكر الجمعي في تعزيز هيمنة الأنظمة أو الأيديولوجيات السائدة عند تبني القيم أو المعتقدات الجماعية دون تساؤل، فيصبح الأفراد عرضة للانصياع للسلطة، سواء كانت سياسية، دينية، أو إعلامية. وواقعنا العربي المعاصر حافل بالأمثلة التي يظهر فيها كيف يمكن للفكر الجمعي أن يكون وسيلة للسيطرة على العقول خاصة في الأنظمة الشمولية وتلك التي يحكمها العسكر.
تشويه التفاهم بين الثقافات
عندما يسيطر الفكر الجمعي على المجتمع، يُحتمل أن يواجه الأفراد صعوبة في تقبل الآراء المتنوعة والمختلفة،وقد يؤدي هذا إلى تشويه التفاهم بين الثقافات أو الطوائف أو المجموعات المختلفة. والانغلاق على فكر واحد يؤدي إلى نشوء بيئات تكون فيها الاختلافات محكومة بالتهميش أو الصراع، مما يعزز الكراهية والانقسام في المجتمعات، والعراق الذي اختلقه الأميركان بعد العام 2003 مثال على ذلك ،و الفكر الجمعي عندما يتم ترويجه عبر وسائل الإعلام أو الحملات السياسية، غالبًا ما يعتمد على تحفيز الانفعالات والمشاعر أكثر من التوجه نحو التفكير العقلاني والمنطقي، وهذا النوع من التفكير يمكن أن يؤدي إلى اتخاذ قرارات متسرعة وغير عقلانية استنادًا إلى العواطف بدلاً من الأدلة الموضوعية. ومثل هذه القرارات قد تكون ضارة على المستوى الشخصي أو المجتمعي، لأنها لا تعتمد على تحليل دقيق للحقائق أو فهم شامل للواقع. في المجتمعات التي تسود فيها الأفكار الجمعية، يمكن أن يتعرض الأفراد الذين يختلفون في آرائهم أو معتقداتهم للتمييز الاجتماعي أو الاستبعاد. عندما يُنظر إلى المخالفين للأفكار السائدة على أنهم تهديدات للنظام الجماعي، فإنهم قد يواجهون وصمة اجتماعية أو حتى عزلة،وهذا الاستبعاد قد يمنع تنوع الآراء والأفكار من الظهور، مما يؤثر على حرية التعبير ويسهم في فرض سياقات اجتماعية مغلقة،والأمثلة على ذلك نجدها في عدد من الدول العربية سواء في المشرق أو المغرب .
الحد من الإبداع
في عصر المعلومات السريعة ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكن أن يسهم الفكر الجمعي في تسارع انتشار المعلومات المغلوطة أو الشائعات. وعند تبني قناعات جماعية بناءً على معلومات غير موثوقة أو مشوهة، يصبح من الصعب التصدي للأخبار الكاذبة أو المفاهيم المغلوطة. في بعض الأحيان، تؤدي هذه الظاهرة إلى تزييف الحقائق وإثارة الفتن بين الأفراد أو الجماعات، مما يزيد من تآكل الثقة في المؤسسات الإعلامية والسياسية . والفكر الجمعي يحد من الإبداع والابتكار، حيث يصبح الأفراد أكثر ميلاً إلى اتباع القيم والأفكار السائدة بدلاً من التفكير بشكل مستقل،ويقيد هذا التوجه النمو الشخصي للأفراد ويؤدي إلى ركود فكري داخل المجتمعات، وحين يقتصر الأفراد على الأنماط المألوفة أو المستقرة، يصعب عليهم التفكير خارج الصندوق والمساهمة في حلول مبتكرة للتحديات المعقدة. وقد يؤدي الفكر الجمعي إلى مبالغات في تقديس الجماعة أو الهوية الثقافية، حيث يتم تعزيز فكرة أن أي نقد للجماعة أو الأفكار السائدة يعد بمثابة تهديد،ولنا ان نضرب هنا عديد الأمثلة من مجتمعاتنا المتقوقعة في حواضن طائفية ومذهبية وقبلية،وهذا الوضع يخلق بيئة متطرفة في ولاءاتها الفرعية على حساب الموضوعية أو الانفتاح على التغيير، وعلى المدى الطويل، يمكن أن يؤدي هذا إلى نوع من التطرف الجماعي، حيث يصبح أي نقد أو تفكير مخالف غير مقبول.
والمحصلة النهائية تقول بإن شيوع الفكر الجمعي يضر بالقدرة على التفكير النقدي والمستقل، ويؤدي إلى العديد من المخاطر الاجتماعية والفكرية، لذلك، من المهم أن تشجيع التنوع الفكري،وعدم الانصياع لخطاب الأفكار الجمعية التي قد تؤدي إلى ضياع القدرة على التفكير العقلاني والتطور الشخصي والجماعي.
كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب