منوعات

الدراما السورية: حين يروي الجلاد قصص الضحايا!

الدراما السورية: حين يروي الجلاد قصص الضحايا!

مهدي الناصر

في إحدى الحكايات الشعبية، يُقال إن رجلًا كان من أشرس المدافعين عن طاغية ظالم، يمجّده في كل مجلس، ويشيد بعدله وحكمته، حتى لحظة سقوطه.
حينها، بدّل الرجل موقفه فجأة، وبدأ يسرد قصصًا عن مظالم ذلك الطاغية، متحدثًا بلسان الضحايا وكأنه واحد منهم.
التفت إليه أحد الحاضرين وسأله: «كيف يمكنك أن تروي مآسينا، وأنت بالأمس كنت تصفّق للجلّاد؟» فأجابه بكل بساطة: «الناس ينسون بسرعة». لكن، هل ينسى السوريون؟
اليوم، وبعد سقوط النظام السوري، نرى مشاهد مماثلة تتكرر، حيث يظهر بعض من دافعوا عن الاستبداد، وهاجموا الثورة، وحاربوا الحقيقة، في أعمال درامية تتناول جرائم النظام نفسه.
ومن أبرز هذه المفارقات مشاركة الفنان غسان مسعود في مسلسل «قيصر»، الذي يروي قصص التعذيب والموت في سجن صيدنايا، أحد أكثر السجون وحشية في العصر الحديث.
كيف لمن كان من أشد المدافعين عن النظام السوري، ومن أكثر من استخدم منابر الإعلام لتشويه الثورة واتهام معارضي النظام بالإرهاب، أن يكون اليوم جزءًا من عمل يسرد قصص ضحايا ذلك النظام؟ هل يمكن اعتبار ذلك تحولًا حقيقيًا أم مجرد محاولة لإعادة التموضع بعد سقوط السلطة التي دافع عنها طويلًا؟
خلال السنوات الماضية، لم تكن المواقف السياسية للفنانين تفصيلًا عابرًا، بل كانت محددًا لمسارهم المهني والاجتماعي. هناك من رفض التورط في تبرير الاستبداد، فتم إقصاؤه، واضطر إلى مغادرة بلاده، وخسر فرصه الفنية لأنه لم يقبل أن يكون شاهد زور.
في المقابل، كان هناك من استخدم صوته وفنه للدفاع عن النظام، واعتبر أن ما يجري ليس سوى «مؤامرة كونية»، وأن المعتقلين في سجون الأسد إرهابيون لا يستحقون الحياة.
لم يكن ذلك مجرد اختلاف في الرأي، بل كان جزءًا من معركة أكبر، بين من وقف إلى جانب المظلومين، ومن وقف إلى جانب الجلاد.
الملفت اليوم أن بعض هؤلاء الذين دافعوا عن النظام حتى لحظاته الأخيرة، وهاجموا الثورة بكل الوسائل، باتوا يتصدرون مشهد الأعمال التي تتناول ممارسات النظام نفسه. لا مشكلة في أن يغير الإنسان موقفه، لكن المشكلة الحقيقية هي أن يتم القفز فوق الذاكرة وكأن شيئًا لم يكن، دون أي مراجعة أو اعتراف بالخطأ.
الفن ليس مجرد مهنة، بل هو ذاكرة جمعية، وحين يؤدي أحد المدافعين عن الاستبداد دور الضحية، فإنه لا يروي قصة مجردة، بل يعيد تشكيل الوعي بطريقة تبرر الماضي أو تمسح أثره.
لا يقتصر الأمر على الدراما، بل يمتد إلى المشهد السياسي أيضًا، حيث نجد شخصيات مثل سلاف فواخرجي، التي لم توفر فرصة لدعم النظام خلال سنوات الحرب، تُدعى اليوم للمشاركة في جلسات الحوار الوطني.
كيف يمكن لمن كانت في الصفوف الأولى للدعاية للنظام أن تكون اليوم جزءًا من الحديث عن مستقبل البلاد؟ هل من دعاها يدرك فعلًا مواقفها السابقة، أم أن المصالحة في سوريا الجديدة ستتم على حساب الحقيقة؟
المسألة هنا ليست انتقامًا من أحد، بل هي احترام لمشاعر وحقوق من دفعوا الثمن.
بعد سقوط أي نظام مستبد، لا يمكن تجاوز الماضي بمجرد تغيير المواقع، لأن العدالة الانتقالية ليست مجرد محاكمات قانونية، بل هي أيضًا إنصاف معنوي وأخلاقي.
من حق السوريين الذين فقدوا أبناءهم في سجون النظام أن لا يروا من برر التعذيب يومًا، وهو يقف اليوم ليحكي قصص ضحاياه، من حقهم أن لا يُطلب منهم تجاوز معاناتهم قبل أن يتم الاعتراف بها بصدق، لا لمجرد أن ذلك بات ضروريًا مهنيًا أو سياسيًا.
في النهاية، كما بدأنا الحكاية، هل ينسى السوريون؟ ربما لا، لكن يبدو أن البعض يعوّل على ذاكرتهم المنهكة بعد سنوات الحرب والقهر.
السؤال هنا ليس عن مواقف الأفراد فحسب، بل عن شكل الذاكرة الوطنية التي تتشكل اليوم: هل ستكون ذاكرة صادقة، أم ذاكرة مشوّهة تكتبها المصالح بعد سقوط الطاغية؟

* معد ومقدم برامج إذاعية وتلفزيونية وبودكاست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب