الشرق الأوسط… قبل وبعد حرب غزة

الشرق الأوسط… قبل وبعد حرب غزة
عمرو حمزاوي
قبل نشوب حرب غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 كان الشرق الأوسط، وكعهد شعوبه مع وقائعه وتقلباته طوال النصف الثاني من القرن العشرين والعقود والسنوات المنصرمة من القرن الحادي والعشرين، يشهد طيفا داميا من الحروب والصراعات المسلحة والنزاعات الأهلية العصية على الإنهاء أو الإيقاف إن عسكريا أو سياسيا.
كانت إسرائيل تواصل فرض «تصفية الأمر الواقع» على القضية الفلسطينية والانقلاب على حل الدولتين ومبدأ الأرض مقابل السلام بالنشاط الاستيطاني المتصاعد في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبالحصار المفروض على قطاع غزة، وبتجريد السلطة الوطنية الفلسطينية من أدوات عملها كنواة لدولة فلسطين المستقلة. كانت إسرائيل تواصل الاحتلال والتصفية والاستيطان والحصار وتلحق بالشعب الفلسطيني صنوف العنف الهيكلي المرتبطة بكافة هذه الجرائم وتنزل نظام الفصل العنصري الذي ينتج عنها واقعا معاشا لا فكاك منه، بينما حكوماتها المتعاقبة تتخندق في مواقع اليمين المتطرف وأغلبية مواطناتها ومواطنيها تنتقل على وقع ذلك وعلى وقع استمرار العنف بين المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين وتراجع الأمن الناتج عنه من تفضيل عام لحل الدولتين إلى رفض جماعي له.
في المقابل، كان الشعب الفلسطيني يرى قضيته الوطنية تُصّفى واتفاقيات أوسلو تفشل بعد سنوات المفاوضات ومحاولات التسوية الطويلة ومصائر الضفة والقدس، وغزة تتعرض لانتكاسات متتالية على وقع الاحتلال والاستيطان والحصار واهتمام الإقليم والعالم بممارسته لحقه المشروع في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة يتراجع بقسوة، ويفقد من ثم هو الآخر إيمانه بالسلام ويتبنى في مواجهة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي خليطا من أدوات المقاومة اللاعنفية والعصيان المدني بينما تتورط فصائل مسلحة كحماس والجهاد وغيرهما في العنف.
في مراحل أسبق من الصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني كان تدهور الأوضاع إن بعنف متبادل بين الطرفين أو بانهيار في الخدمات الأساسية المقدمة لأهل الضفة الغربية والقدس وغزة على وقع الاحتلال والاستيطان والحصار، يدفع القوى الإقليمية والقوى الكبرى إلى الاشتباك الإيجابي إن للتوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار وهدن مختلفة الآجال أو لتقديم المساعدات للحيلولة دون الغياب الكامل للأمن الإنساني ولإطلاق جهود إعادة الإعمار والبناء. أما قبل نشوب حرب غزة، وباستثناء جهود مصرية وأردنية متكررة شددت على مركزية القضية الفلسطينية وضرورة إحياء مسارات التفاوض والتسوية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين وصولا إلى تطبيق حل الدولتين ،وذكّرت الإقليم والعالم بمبدأ الأرض مقابل السلام، فتوالى الانصراف إلى رؤى واهتمامات أخرى راوحت بين تطبيع «الاتفاقات الإبراهيمية» التي شملت إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب وبين الاكتفاء بالإدانة الرمزية لاستمرار الاحتلال والاستيطان والحصار وللعنف المتبادل وتقديم المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني عبر وكالات الأمم المتحدة المتخصصة والمنظمات غير الحكومية.
أما فيما وراء القضية الفلسطينية وصراع وقائع الاحتلال والاستيطان والحصار وغياب الأمن بين إسرائيل والفلسطينيين، كان الشرق الأوسط قبل نشوب حرب غزة يعاني من صراعات مسلحة ونزاعات أهلية في عديد الساحات الأخرى
أما فيما وراء القضية الفلسطينية وصراع وقائع الاحتلال والاستيطان والحصار وغياب الأمن بين إسرائيل والفلسطينيين، كان الشرق الأوسط قبل نشوب حرب غزة يعاني من صراعات مسلحة ونزاعات أهلية في عديد الساحات الأخرى وكانت تلك الصراعات والنزاعات تورط أيضا عديد القوى الإقليمية والدولية في تفاصيلها. في سوريا التي لم يتوقف بها العنف، في لبنان الذي تفكك نظامه السياسي بينما حزب الله يوظف سلاحه لاختطاف القرار الخارجي لبلد متنوع المذاهب وللدفاع عن مصالح الحليف الإيراني وحلفاء إيران في سوريا والعراق وفي اليمن، في العراق الذي تنازع به الميليشيات الشيعية الحكومة الشرعية في استخدام القوة لأهداف داخلية وخارجية أيضا بالتنسيق مع الحليف الإيراني، في اليمن الذي لم تتراجع حدة حربه الأهلية وتهديداته للسلم الإقليمي والعالمي سوى بعد الوساطة الصينية بين السعودية وإيران دون أن يعني ذلك عودة الاستقرار السياسي أو شيء من التحسن في الأوضاع الإنسانية والمجتمعية، في السودان الذي انفجرت حربه الأهلية بسبب ثنائية الجيش النظامي والميليشيات المسلحة والعجز عن بناء نظام سياسي جديد قادر على مواجهة مطالب الأمن الإنساني والمطالب التنموية المتراكمة، في ليبيا حيث تواصلت الصراعات المسلحة والنزاعات الأهلية التي تهدر استقرار بلد غني بموارده وتفرض عليه كوارث لم يعهدها من قبل.
في كافة هذه الساحات، وعلى الرغم من عدم ابتعاد القوى الإقليمية والقوى الدولية عن التدخل بأدوات عسكرية وغير عسكرية متنوعة، لم تتوقف الصراعات والنزاعات المشتعلة وتصاعدت تدريجيا تداعياتها على الأمن الإقليمي والعالمي قبل حرب غزة كما تزايدت ضغوطها على الموارد المتاحة للسياسات الخارجية لعواصم كالقاهرة والرياض وطهران ودفعت عواصم كبرى كواشنطن وبكين إلى التسليم بالاحتمالية المرتفعة لاستمرار غياب الاستقرار عن الشرق الأوسط. في هذه الأجواء، نشبت حرب غزة وامتدت تدريجيا إلى ساحات أخرى كانت مشتعلة بالفعل وصنعت منها مشهدا لحرب استنزاف إقليمية شاملة.
وفي هذه الأجواء أيضا، اتضح عجز القوى النافذة في الشرق الأوسط عن وضع حد للحروب والصراعات والنزاعات المشتعلة واتضح أيضا خليط العجز والرغبة المحدودة من قبل القوى الدولية للاشتباك الإيجابي لإطفاء الحرائق. فعلى خلاف الحروب السابقة، تتسم حرب الاستنزاف الدائرة اليوم في الشرق الأوسط من جهة بطول أمدها ومن جهة أخرى بالعجز الدولي عن إنهائها بتوظيف الأدوات الدبلوماسية المتمثلة في الوساطة والتفاوض واستصدار القرارات الأممية القاضية إن بوقف لإطلاق النار أو بفض اشتباك القوات أو بترتيبات لهُدنٍ مختلفة الآجال أو بمعاهدات سلام.
فقط حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل والتي تواصلت بين مارس/آذار 1969 وأغسطس/آب 1970 هي الحرب العربية-الإسرائيلية الوحيدة الأطول أمدا، بحسابات اليوم، من الحرب الدائرة في غزة منذ العام الماضي والممتدة أخيرا إلى لبنان. غير أن حرب الاستنزاف، وهي استغرقت سنة ونصف السنة، راوحت عملياتها العسكرية بين حدة بالغة في بعض الفترات وبين شيء من الهدوء النسبي في فترات أخرى واختلفت من ثم جذريا عن الحرب الراهنة التي لا يمر بها بضع ساعات دون غارات جوية، أو هجمات بالصواريخ والمسيرات أو تغول لقوات برية أو إنذارات للسكان المدنيين بإخلاء مساكن وأحياء تارة وضيع ومدن تارة أخرى، دون دماء ودمار واسعي النطاق.
أما فيما خص المساعي الدولية لإنهاء الحروب إن بتفعيل جهود الوساطة والتفاوض أو من خلال العمل في أروقة الأمم المتحدة، فتلك لم تغب أبدا منذ 1948 وكثيرا ما أسفرت عن نتائج يعتد بها لجهة وقف إطلاق النار على جبهات القتال وفض الاشتباك بين المتقاتلين، وأنتجت أحيانا ترتيبات سلام لم تتوازن، فقصُر أجلها أو توازنت فاستقرت وطال أمدها، ومرارا ما أقرت التزامات وتعهدات على العرب وإسرائيل وضمانات دولية لصون احترامهم لها وتفاوتت الأمور عند التطبيق الفعلي على نحو فاحش.
بصرف النظر عن تقييم مضامين ونتائج المساعي الدولية لإنهاء الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط منذ 1948 ودون تجاهل لحقيقة راسخة مؤداها أن الانحياز الأمريكي على وجه الخصوص والغربي على وجه العموم للدولة العبرية والذي ترجم إلى سلاح ودعم اقتصادي ومالي ودبلوماسي وفّر الحماية الشاملة لها ولاحتلالها للأراضي العربية ولاعتداءاتها المتكررة في جوارها المباشر وفي جوارها الإقليمي بمعناه الواسع ولتمسكها بتصفية القضية الفلسطينية وإلغاء حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، يظل الشاهد أن العالم لم يتجاهل في الماضي حروب الشرق الأوسط ولم يتركها تتواصل لأمد زمني يتشابه مع ما يحدث إزاء حرب الاستنزاف الدائرة اليوم.
كاتب مصري